أما المعنى الثالث للتأويل: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إِلَى احتمال مرجوح، فالسف الصالح لم يكن معروفاً عندهم إلا المعنيين السابقين، إما التفسير وإما الحقيقة التي يؤول إليها الشيء.
أما الاصطلاح الحادث، فهذا لم يتكلم فيه السلف، ولا يقرونه إنما يقرونه أهل الزيغ: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)).
ولا نختار أن نقف هنا؛ لأن الذين في قلوبهم زيغ، ومنهم الفرق التي ظهرت في زمن الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، كـالخوارج وأشباههم لم يكونوا يتبعون المتشابه من القرآن، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، بمعنى: ابتغاء تفسيره، وإنما ابتغاء الفتنة ليجادلوا ويماروا بالقرآن،
{والمراء بالقرآن كفر}.
كما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالفرق المارقة وأصحاب البدع، يتبعون المتشابه من الآيات التي يشكل معناها، أو تحتمل معنيين، فلا يردون المتشابه إِلَى المحكم، وإنما يتبعون هذا المتشابه، ابتغاء الفتنة وإيقاعها في قلوب الناس، وتفريقاً بينهم وإبعاداً لهم عن الطريق المستقيم الذي عليه الجماعة، وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأهل الزيغ يبتغون أن يعلموا ما تؤول إليه معاني وحقائق هذا القرآن، فمن ذلك: أنهم ينزلون بعض الآيات عَلَى أن معانيها منزلة عَلَى أشخاص معينين وهي لم تنزل فيهم، أو يريدون معرفة معانيها التي لا يمكن أن يعلمها أحد
وعلى هذا المعنى يكون الوقف عَلَى قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) أولى، والمعنى متناسق، لأن الله تَعَالَى وحده هو الذي يعلم ما يؤول إليه هذا الكلام، مع أن التشابه نسبي.
سيبقى الإشكال -إذا كَانَ هذا هو الوجه المختار- فلماذا خُص الراسخون في العلم بأنهم يقولون: ((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) أي: إذا قلنا: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، وإنما يقولون: "آمنا به" فكل جاهل وكل إنسان لا يعلم المعنى وبإمكانه أن يقول: ((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)).
والله تَعَالَى إنما خص الراسخين في العلم تنبيهاً عَلَى من دونهم، فإذا كَانَ الراسخون في العلم من كبار الصحابة ومن بعدهم يقولون: ((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) أي: لا يعلم معناها وما تؤول إليه حقائقها إلا الله، ونرد تأويل ذلك إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فمعنى ذلك: أن من عداهم من باب أولى أن لا يتكلم وأن لا يخوض في تأويله.
ومنهم بطبيعة الحال الذين يريدون الفتنة لأن في قلوبهم زيغ؟
إذا قلنا مثلاً: إن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، كَانَ يقول في مثل هذه الآيات ((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) فكيف يجب أن يكون نافع بن الأزرق زعيم الخوارج الأزارقة الذي كَانَ يسائل عبد الله بن عباس كثيراً عن معاني القُرْآن في كثير من الآيات؟!
هذا الذي في قلبه زيغ، أي: نافع يتبع الفتنة، وابتغاء تأويل هذه المعاني أولى وأحرى به أن يقول ما قاله الراسخون: ((آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) فكذلك من بعدهم أولى وأحرى بذلك وأعظم، فيكون في ذكر الراسخين في العلم مناسبة وحكمة جليلة عظيمة لمن تأملها.