قال المصنف: [وإذا قيل: المداد في المصحف] وأتى بها المُصنِّف لأن الأشعرية والماتريدية ومن نحا نحوهم، يقولون لأتباع السلف نلزمكم بأحد قولين:
إما أن تقولوا مثل قولنا: إن القُرْآن مخلوق.
وإما أن تقولوا بكلام الحلولية.
فأنتم إذاً حلولية! لأنكم تقولون: إن ما في المصحف كلام الله.
إذاً كلام الله الذي هو صفة الله يحل في المصحف فهذه شبهة شيطانية ألقاها عَلَى أولئك،
ولكنَّ ردها من أسهل وأبسط ما يمكن، فقد تطرق لها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا.
فَيَقُولُ: إذا قيل: المداد مخلوق؟
نقول: نعم مخلوق.
وإذا قيل: المداد في المصحف.
فنقول: نعم صحيح.
فيقولون: كلام الله في المصحف؟
نقول: نعم.
يقولون: إذاً فكلام الله مخلوق؟
نقول: لا.
يقولون: لماذا فرقتم بينهما؟
نقول: "في" كلمة الظرفية تختلف من كلمة إِلَى كلمة، ومن معنى إِلَى معنى، وكلها حقيقة.
فإذا قلنا: المداد في المصحف فالظرفية هنا حقيقة؛ لأن الظرف في اللغة العربية هو الوعاء أو المكان أو الزمان فالظرفية كأنها شيء يحويه أو يستوعبه، ويكون حالّاً فيه مكاناً أو زماناً، والمداد الذي هو الحبر في المصحف لأن هذا القُرْآن الذي هو كلام الله كتب بمداد، إذاً هذا إطلاق حقيقي بالنسبة للمداد، لكن هذا الإطلاق يختلف عن قولنا: القرآن: فيه السماوات والأرض، وفيه: محمد، وعيسى عليهما السلام ونحو ذلك.
وقولنا: فإن معنى هذا: أن فيه لفظ السماوات، والأرض وفيه كلمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه كلمة عيسى عَلَيْهِ السَّلام أو فيه خبرهما، فهنا كلمة "في" موجودة لكن لها هنا معنى وهو معنى حقيقي، ولها هناك معنى آخر.
فإذا قلنا: القُرْآن فيه كلام الله فهذا معنى ثالث، أي هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- مثلما لو جئنا بكتاب مثلاً: ديوان شعر فقلنا هذا الكلام فيه شعر امرؤ القيس أو هذا شعر امرؤ القيس فالكلام صحيح في كلا الحالتين؛ لأنه ديوانه الذي فيه شعره، فالذي قاله مكتوباً في هذا الديوان، فلو قلت: هذا كلام امرؤ القيس فالكلام صحيح ولا مجاز فيه، فيتبين بذلك أن كلمة "في" تختلف بحسب الإطلاق.
فالظرفية تختلف من معنى إِلَى معنى آخر، وكون المداد بالمصحف، لأن الورق يحويه فهو ظرف له حوى المداد، ففيه القُرْآن وفيه السماوات والأرض، أي: فيه "كلمة السماوات والأرض" وليست نفس السماوات والأرض بحقيقتها في المصحف، لكن المداد نفس حقيقة المداد موجود في المصحف، وهذا المعنى حقيقي وذاك المعنى حقيقي، ولكن يختلف عن هذين المعنيين بمعنى أنه هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فعلى هذا فالكلمة تختلف من إطلاق إِلَى إطلاق.