المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ وكثيرٌ من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعددُ والتكثر والتجزي والتَّبَعُّضُ في الحاصل في الدّلالات، لا في المدلولِ، وهذه العبارات مخلوقة، وسميت "كلام الله" لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عُبِّرَ بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام، قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً.
وهذا الكلام فاسد، فإن لازِمَهُ أن معنى قوله: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى))[الإسراء:32] هو معنى قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ))[البقرة:43] . ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده وعلم أنه مخالف لكلام السلف.
والحقُّ أن التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ والقرآنَ من كلام الله حقيقة، وكلامُ الله تعالى لا يَتَنَاهى، فإنه لم يَزَلْ يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يَزَالُ كذلك، قال تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) [الكهف:109] وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [لقمان:27].
ولو كان ما في المصحف عبارةً عن كلام الله وليس هو كَلامَ الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءة القرآن .
بل كلامُ الله محفوظ في الصدور مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر وهو في هذه المواضع كلها حقيقة.
وإذا قيل: المكتوب في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته، فُهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب ] إهـ.

الشرح:
هذا المذهب الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله تعالى- هو ما ذهب إليه كثير من متأخري الحنفية وهو أن كلام الله عز وجل معنى واحداً ولكن تختلف العبارات فيه، وقد سبق شرح هذا الكلام، فمتأخري الحنفية هم في الحقيقة على مذهب ابن كلاب والأشعري ولم يأتوا في هذا الباب بجديد، وإنما قد تختلف بعض العبارات في التعبير، ولكن الفكرة والغاية واحدة فهم يقولون: إن التعدد والتكثر والتجزء والتبعض حاصل في الدلالات لا في المدلول.
فدَلالة أو دِلالة أو دُلاله بتثليث الدال هي: الألفاظ، والمدلول هو: المعنى.
فيقولون: إن التبعض والتكثر حاصل في الدلالات في الألفاظ التي عُبِّر عنها، سواء قلنا الذي عبر عنها هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم أو أن الله -عز وجل- خلق التعبير عنها، لكنها في ذاتها شيء واحد، أي: أن كلام الله عندهم صفة ومعنى قائم في ذاته سبحانه وتعالى.
فمثلاً التوراة والإنجيل والقرآن هذه كتب مختلفة وعبارات متنوعة فآية الكرسي وآية الدين وسورة الإخلاص و((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] إلى آخر هذه العبارات ألفاظها مختلفة، لكنهم يقولون: الأصل أن المعنى واحد ولا فرق فيه بين خبر ونهي ولا توراة ولا إنجيل ولا قرآن من حيث المدلول، أي: أن المعاني واحدة، لكن عند التعبير سواء كان المعبر هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن الله خلق هذا اللفظ الذي يعبر عن الكلام الذي في نفسه-أو في ذاته- عند هذا تختلف العبارات وتختلف الدلالات.
فيقولون: العبارات مخلوقة، سواءً كانت خلقاً خلقه الله منفصلاًُ، أو من كلام جبريل أو محمد، فهي مخلوقة، ويقولون: سميت كلام الله؛ لأنها دالة عليه ومؤدية لمعناه، فيفهم كلام الله الذي هو المعنى النفسي القائم به من خلال هذه العبارات والحكايات والألفاظ الدالة عليه، وتسميتها كلام الله من قبيل المجاز، فالكلام شيء واحد، والعبارات مختلفة، وكلها مخلوقة، ويطلق عليها كلام الله على سبيل المجاز؛ لأنها تدل على كلام الله عز وجل، هذا ملخص مذهب الحنفية المتأخرين، وهو مذهب غيرهم كـالأشاعرة وأمثالهم .
  1. الرد على من يقول بأن كلام الله معنى واحد

  2. كلام الله حقيقة وليس مجازاً

  3. بعض إلزامات أهل البدع لأهل السنة في مسألة الكلام . والرد عليهم

  4. الفرق بين القراءة والمقروء

  5. أنواع الوجودات

  6. وقفة مع قوله : (( وإنه لفي زبر الأولين ))