لقد رد المُصنِّف هنا عليهم بردود سهلة لكل ذي عقل وبصيرة، فَيَقُولُ: [وهذا الكلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله
((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى)) هو معنى قوله:
((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب)) [المسد:1].
وهذا القول لا يقول به عاقل ولا دليل عليه مطلقاً، فليس هناك من داع يدعو إِلَى هذا القول إلا مأزق كلامي أو أغلوطة ألقاها الشيطان في أنفسهم وعجزوا عن جوابها؛ حتى لا يثبتوا أن الحوادث تحل بالله وهذا يقتضي المماثلة والمشابهة وغيرها من التعليلات؛ فهل معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين؟! من المعلوم أن آية الكرسي أفضل وأعظم آية في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وهي تتعلق بصفات الله تعالى، وآية الدين تتعلق بالأحكام، وكذلك هل معنى سورة الإخلاص
((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *
اللَّهُ الصَّمَدُ *
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) هو نفس معنى
((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) وبينهما من الفرق ما يعرفه كل عاقل! فهما مختلفتان تماماً في المعنى واللفظ، فلا حاجة إِلَى هذا القول الذي يظهر لمن تأمله سقوطه وبطلانه.
وأما التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكلام الله جملة فبين المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه الكتب جميعاً هي كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يزل يتكلم بما شاء متى شاء وكيف يشاء، يتكلم مع ملائكته الذين يصعدون كل يوم إليه -جل وعلا- بأعمال العباد فيسألهم عنها وهو بهم أعلم، ويتكلم بالأمر الذي يريد أن يقضيه مع من شاء من ملائكةٍ آخرين. فتخر الملائكة صعقاً من خشيته وهيبته، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يتكلم مع من يشاء من عباده، فقد تكلم الله بالتوراة وبالإنجيل وبالقرآن وتكلم فيما مضى ولا يزال يتكلم.
والتكلم: صفة فعلية لله عَزَّ وَجَلَّ، لكن عَلَى كلامهم أنه معنى واحد في الأزل موجود، وإنما تختلف العبارات، إذا فكيف يمكن الجمع بين هذا الذي ثبتت به النصوص، وبين قولهم: إنه معنىً واحد؟ لا يمكن هذا!! لكنهم لو اتبعوا كلام الله ورسوله وآمنوا بأن هذه النصوص هي الحق والصواب، وأن الله تَعَالَى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، لما وقعوا في هذه الخلط. ويستدل المُصنِّف -رحمه الله تعالى- عَلَى ذلك بقوله تعالى: ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) فكلمات الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا تتناهى، فكيف يجعلون لها معنىً واحداً فقط؟!
وأيضاً قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))[لقمان:27] فهذا دليل آخر عَلَى أنها لا تتناهى، فكيف تكون معنى واحداً؟
ثُمَّ يستدل ببعض الأدلة الفقهية العقلية فَيَقُولُ: [ولو كَانَ ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لما حرم عَلَى الجنب والمحدث مسه] لأنه لو كَانَ مجرد معنى كلام الله عَزَّ وَجَلَّ فهو إذا كَانَ معنىً مخلوقاً مثل سائر المعاني، ومثل كلام البشر الآخرين، فلماذا اختص وحده بأنه يحرم عَلَى الجنب والمحدث أن يمسه؟ لو جئنا بإنسان وكتب عن معنى من معاني سورة من السور كما يفهمها هو في ورقة.
فإن هذه الورقة يمكن لأيِّ إنسان أن يمسها ولو كَانَ جنباً؛ لأنه ليس فيها كلام الله، إنما فيها المعاني التي يدل عليها كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فهناك فرق بين حقيقة نفس كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وبين معانيه التي يدل عليها، ويقول أيضاً: [لو كَانَ ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم عَلَى الجنب والمحدث قراءة القرآن] وبالأخص الجنب.
فنفس الدلالة واحدة، أي: لو كَانَ هذا القُرْآن مجرد معانٍ، فإن المعاني يجوز أن يقرأها الإِنسَان أو يمسها عَلَى آية حال كان؛ لكن حقيقة كلام الله المقروء الذي في المصحف فإنه لا يقرأ، ولا يمس إلا عَلَى طهارة كما هو مذهب المُصنِّف ورجحه هنا.