المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع:
أحدها: الكلام في الصفات .
والثاني: توحيد الربوبية وبيان أن الله وحده خالق كل شيء .
والثالث: توحيد الإلهية وهو استحقاقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعبد وحده لا شريك له.
أما الأول فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كـالجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل وهذا القول قد أفضى بقوم إِلَى القول بالحلول أو الاتحاد، وهو أقبح من كفر النَّصارَى، فإن النَّصارَى خصوه بالمسيح، وهَؤُلاءِ عموا جميع المخلوقات.
ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان عارفون بالله عَلَى الحقيقة.
ومن فروعه أن عباد الأصنام عَلَى الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره. ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنى والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة. ومن فروعه أن الأَنْبِيَاء ضيقوا عَلَى النَّاس تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبير]
.
الشرح:
ابتدأ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- يشرح أنواع التوحيد الثلاثة، وهنا شبهة يثيرها بعض المبتدعة وهي: أن تقسيم التوحيد إِلَى ثلاثة أقسام بدعة. فلم نقرأ في القُرْآن ولا في السنة توحيد الأسماء والصفات.
وهذه الشبهة دالة عَلَى جهلهم ومكابرتهم، وإلا فإنهم لا يتحرجون من البدع حتى يقولون: إن هذا التقسيم بدعي، ولكن نقول لهم مع ذلك: إن أقسام التوحيد الثلاثة نقرأها في كل ركعة من صلاتنا، فإذا قرأنا: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهذا توحيد الربوبية، وإذا قرأنا ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) فهذا توحيد الأسماء والصفات، ثُمَّ إذا قرأنا بعد ذلك ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) فهذا توحيد الألوهية أو توحيد العبادة.
فمن أهمية هذه الأقسام الثلاثة أننا نرددها في كل فريضة، وهي في القرآن، وكذلك آخر سورة في القرآن، فإذا قرأنا ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) فهذا توحيد الربوبية. ((مَلِكِ النَّاسِ))فهذا يشمل توحيد الربوبية. ((إِلَهِ النَّاسِ)) فهذا يشمل توحيد الألوهية، وتشمل الآيات توحيد الأسماء والصفات، لأنه سمى نفسه رباً وملكاً وإلهاً. فالقرآن من أوله إِلَى آخره توحيد، وصلاتنا في كل ركعة نذكر فيها التوحيد بأنواعه الثلاثة،
وعلماء الإسلام فهموا هذا الفهم، ولذلك من ألف منهم في التوحيد كـابن مندة-وهو من العلماء المتقدمين- ذكر هذه الأنواع الثلاثة في القرن الرابع، فليس هذا التقسيم من اختراع شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ولا غيره.
فأنواع التوحيد ثلاثة جاءت في الكتاب والسنة، كما في الحديث عن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها {أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث رجلا عَلَى سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم ب ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه فَقَالَ لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فَقَالَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه أن الله يحبه}.
إذاً توحيد الأسماء والصفات معروف لدى السلف الصالح، والأدلة عَلَى ذلك كثيرة، وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها صفة الرحمن، ومعنى هذا أن توحيد الأسماء والصفات هو ثلث التوحيد، والثلث الثاني هو توحيد الربوبية، والثلث الأخير هو توحيد الألوهية.
فالأدلة من الكتاب ومن السنة ومن فعل السلف دالة عَلَى أنواع التوحيد الثلاثة، ولا ينكر ذلك إلا مكابر، ولو أنهم حققوا التوحيد لما اختلفنا في الأسماء، لكن التوحيد عندهم نظري، وهو: نفي الكميه المتصلة، ونفي الكميه المنفصلة، هذا هو التوحيد عندهم، فلذلك قالوا: هذه الأقسام الثلاثة بدعة.
يقول المُصنِّفُ أما بيان التوحيد الأول، فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، فالتوحيد عند الجهمية: أن لا يثبت لله صفة قط، والتوحيد عند المعتزلة: أن ننفي جميع الصفات مع إثبات الأسماء، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، مريد بلا إرادة، عزيز بلا عزة، هكذا يقول المعتزلة من عند أنفسهم افتراء عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ.
والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد جعل القول عليه بغير علم في درجة بعد درجة الشرك في الزجر، فقَالَ: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً))[الأعراف:33] ثُمَّ قَالَ: ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33] فهذا أعظم من الشرك. فالمشرك يعبد غير الله عَزَّ وَجَلَّ، لكن من يقول عَلَى الله بغير علم أعظم من مجرد هذا المشرك؛ لأنه يقنن، وينظّر لهذا الشرك، ويفتري عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ.

فنفاة الصفات جعلوا التوحيد هو: نفي الصفات، فقالت الجهمية: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.
فالواجب عندهم هو: واجب الوجود، فـالفلاسفة يسمون الله تَعَالَى واجب الوجود، ويقولون: الموجودات تنقسم إِلَى ثلاثة أقسام: واجب، وممكن، ومستحيل، من حيث الوجود. فواجب الوجود هو: ما يوجد بذاته مستغنى عن غيره وغيره مفتقر إِلَى وجوده، أي الله عَزَّ وَجَلَّ. والممكن: وجود المخلوقات، والمستحيل: وجود واجبين، كما هو مستحيل وجود إلهين -مثلاً-.
فواجب الوجود عندهم -كما يقولون- هو الله عَزَّ وَجَلَّ، فلا يثبتون له إلا أنه واجب الوجود، وأنه موجود في عالم المثال -أي: في الذهن- فلا يثبتون أي صفة وجودية -كما قلنا- حتى لا يتعدد ويصبح في عالم الواقع، حيث ننفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة، فنقول: بإثبات ذات مجردة عن جميع الصفات.
وهذا في الحقيقة لا يتصور له وجود في خارج الذهن، بحيث نثبت ذات ليس لها أي صفة. فكل شيء له وجود لابد أن يكون له صفات، فنق غول مثلاً: هو طويل، عريض، ضخم، أحمر أو أبيض، فلابد له من وصف مادام موجوداً في الخارج. فواجب الوجود الذي يتكلم عنه الفلاسفة غير موجود أبداً، إلا في أذهان الفلاسفة فقط.
  1. نفي الصفات أفضى إلى الحلول والاتحاد