شرح إبن أبي العز
شرح ابن أبي العز بحسب الفقرات المختارة .
1 -
يقول الإمام الطحاوي رحمه الله:
[ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] .
قال المصنف رحمه الله:
أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين" يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
2 -
[واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً.
والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: (إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء)، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: (( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ))[الأنعام:68].]
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
3 -
[ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج ، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب.
ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: "ما لم يستحله" وفي قوله: "ما لم يستحله" إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب، الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع إلا أن يُضمّن قوله: "يستحله" بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك.
وقوله: "ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.. إلى آخر كلامه" رد على المرجئة ، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار!
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
4 -
[وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون: بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك.
والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: "وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون".
والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأوَّل تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول: لا يكفر؛ بل العدل هو الوسط وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر ونحو ذلك، كما يُذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: "ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر"]
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
5 -
[وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت.
ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي) وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله! لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار). قال أبو هريرة : (والذي نفسي بيده! لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) وهو حديث حسن.
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
6 -
[ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أو يمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر للذي قال: إذا متُّ فاسحقوني ثم ذُرُّوني.. ثم غفر الله له لخشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك.
لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
7 -
[ثم إذا كان القول في نفسه كفراً، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكونُ ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً؛ فلا يُتَصور أن يُكفَّر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلقَ فيه ثلاثة أصنافٍ: صنفٌ كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين، وصنفٌ مؤمنون باطناً وظاهراً، وصنفٌ أقروا به ظاهراً لا باطناً. وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين؛ فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق.
وهنا يظهر غَلَطُ من كفَّر كل من قال القول المبتدع في الظاهر، إذ يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله، وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمهُ: عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده من الشراب، فأُتي به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يُؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..