شرح ابن أبي العز بحسب الفقرات المختارة .

1 - [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه)، وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه)، بغير واو من قوله: (فوقه)، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء، وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش، وهذا -والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات، وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: محيط بكل شيء فوق العرش -والحالة هذه- معنىً؛ إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو، ويكون المعنى: أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء. أما كونه محيطاً بكل شيء، فقال تعالى: (( وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ))[البروج:20]... (( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ))[فصلت:54]، (( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ))[النساء:126] وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلاَّ كخردلة في يد أحدكم) ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف، فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم، وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه ؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
2 - [وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى: فقال له أبو رزين : (كيف يسعنا يا رسول الله! وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر، آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) وإذ قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
3 - [وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ))[الأنعام:18]، (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ))[النحل:50] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله) وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرّه على ما قال وضحك منه، وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من علُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبلُ وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذْ قام فيهـم يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه، قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نورٌ، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: (( سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ))[يس:58] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه). اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
4 - [وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، في تفسير قوله تعالى: (( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ))[الحديد:3] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: (( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ))[الكهف:97] أي: يعلوه. فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، ونهكت الأموال -أو هلكت- فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟! وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب). وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات)، وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه وأصله في الصحيحين . وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات). وعن عمر رضي الله عنه (أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال: ويلك! أتدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها: (( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ))[المجادلة:1]). أخرجه الدارمي . وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: (( ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ))[الأعراف:17] قال: (ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم). ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
5 - [ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة -تعالى الله عن ذلك- فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده. فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية، لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك، فهو: إما داخل العالم، وإما خارجٌ عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين، وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟! فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
6 - [السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: (( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ))[الزمر:1].. (( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ))[غافر:2].. (( تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))[فصلت:2].. (( تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))[فصلت:42].. (( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ))[النحل:102] (( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ))[الدخان:1-5]] الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ))[الأعراف:206]. ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ))[الأنبياء:19] فَفَرَّقَ بين (من له) عموماً وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش). التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة. الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع، كما يأتي إن شاء الله تعالى. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
7 - [الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
8 - [الثالث عشر: الإشارة إليه حسًّا إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لمَّا كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: (اللهم اشهد)، فكأنا نشاهد تلك الإصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع إصبعه إليه (اللهم اشهد) ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين، والحمد لله رب العالمين] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
9 - [الرابع عشر: التصريح بلفظ (الأين) كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
10 - [الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان. السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: (( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ))[غافر:36-37]، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته، فهو موسوي محمدي. السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه، ثم يعود إلى موسى عدة مرار. الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم: كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: (( سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ))[يس:58] ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم). رواه الإمام أحمد في المسند وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه. ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية النفيين، وصدّق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً؛ فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بسنده إلى أبي مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقال: قد كفر، لأن الله يقول: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء، فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى. ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابته لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورة. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
11 - [ومن تأول (فوق) بأنه خيرٌ من عباده وأفضل منهم، وأنه خيرٌ من العرش، وأفضل منه، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم؛ فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداءً: الله خيرٌ من عباده وخيرٌ من عرشه؛ من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض. وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه، فكيف يليق بكلام الله، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟! بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك، لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: (( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ))[يوسف:39] وقوله تعالى: (( آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ))[النمل:59].. (( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ))[طه:73]. وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض، فقد تنقص. وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه. فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان، فالمكانة تأنيث المكان، والمنزلة تأنيث المنزل، فلفظ المكانة والمنزلة يستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ (المكان والمنزل) في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: (إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه) فقوله: (منزلة الله في قلبه) هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عُرف أن (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى وتابع له؛ فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً. فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء، قيل: وكذلك هو، وهذا العلوّ مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
12 - [وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى، وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بـإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى، وقال: حيرني الهمذاني ، حيرني الهمذاني ..! أراد الشيخ أنَّ هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من المعلمين؛ يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو. وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء؛ فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء؛ بل هو قضية وهمية خيالية. والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إنّ العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن ردَّ العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً، فإن كان قولنا باطلاً في العقل فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل، فإنّ دعوى الضرورة مشتركة. فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..