شرح ابن أبي العز بحسب الفقرات المختارة .

1 - قال الطحاوي رحمه الله تعالى: [ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم (الخالق) ولا بإحداثه البرية استفاد اسم (الباري)] . قال المصنف رحمه الله تعالى: [ظاهر كلام الشيخ رحمه الله تعالى أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار، لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى. وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها، من القائلين بحوادث لا آخر لها، فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما، فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد، كما وصف بذلك نفسه، حيث يقول: ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج: 16،15]. والآية تدل على أمور: أحدها: أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته. الثاني: أنه لم يزل كذلك، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: ((أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [النحل:17] ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله، لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن . الثالث: أنه إذا أراد شيئا فعله، فإن (ما) موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، و أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر؛ فإن أراد فعل العبد و لم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا، لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا. وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية، وخبطوا في مسألة القدر، لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد، وإرادة أن يجعله فاعلا، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى . الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعل فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريده، فما ثَمَّ فعال لما يريد إلا الله وحده . الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام، ويفعل ما يريد . السادس: أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز فعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده نفسه، وأن يتجلى لهم كيف شاء، ويخاطبهم، ويضحك إليهم، وغير ذلك مما يريد سبحانه لم يمتنع عليه فعله، فإنه تعالى فعال لما يريد. وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به، فإذا أخبر وجب التصديق، وكذلك محو ما يشاء، وإثبات ما يشاء، كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى . والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل، ثم صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلا العدم والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لا زم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى ] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
2 - [وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) [هود:7]. وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر،فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله)، وفي رواية: (ولم يكن شيء معه) وفي رواية: (غيره)، (وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض) وفي لفظ: (ثم خلق السموات والأرض)، فقوله: (كتب في الذكر)، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)) [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكرا، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا . والناس في هذا الحديث على قولين، منهم من قال: إن المقصود إخباره بأن الله كان موجودا وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتداء الفعل ولا كان الفعل ممكناً. والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن في غير موضع. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه بخمسين ألف سنة،وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء ] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
3 - [ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه: أحدها: أن قول أهل اليمن:( جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر)، وهو إشارة إلى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه على الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض. وأيضاً فإنه قال: ( كان الله ولم يكن شيء قبله )، وقد روي (معه)، وروي (غيره)، والمجلس كان واحداً ، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى ، ولفظ (القَبْل) ثبت عنه في غير هذا الحديث. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ) الحديث. واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ (القَبْل)، كـالحميدي والبغوي وابن الأثير. وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، و لا لأول مخلوق. وأيضاً فإنه قال: ( كان الله ولم يكن شيء قبله -أو (معه) أو (غيره)- وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء). فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و (خلق السموات والأرض) روي بالواو وبثم ، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السموات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، و ذِكر السموات والأرض بما يدل على خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
4 - [وأيضاً فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما، فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر، فهو مخطئ قطعاً، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد ( كان الله ولا شيء معه ) مجرداً، وإنما ورد على السياق المذكور، فلا يظن أن معناه: الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائماً عن الفعل حتى خلق السموات والأرض. وأيضاً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن قبله -أو (معه) أو (غيره)- وكان عرشه على الماء)، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلاً، لأن قوله: ( وكان عرشه على الماء)، يرد ذلك، فإن هذه الجملة وهي: ( وكان عرشه على الماء ) إما حالية، أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..