قال الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
[ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم].
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[فإنه سبحانه يعلم ما كَانَ وما يكون، ومالم يكن أن لو كَانَ كيف يكون، كما قال تعالى: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]. وإن كَانَ يعلم أنهم لا يُردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))[الأنفال:23] وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.

الشرح:
قول الإمام الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم]. شرحها المُصنِّف -رحمه الله تعالى- بالعبارة المعروفة التي نعتقدها في حق الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي علمه، وهو أنه جل شأنه يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وهذه هي الإحاطة الكاملة بكل ما هو مندرج تحت إمكان العلم، فيعلم ما كَانَ جل شأنه لا يخفى عليه شيء مما مضى، ولهذا لما قال فرعون: ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)) [طـه:51] قال موسى عَلَيْهِ السَّلام:((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)) [طـه:52] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يعلم الماضي بكل دقائقه وتفاصيله، وأما نَحْنُ فما كلفنا أن نعلم هذه التفاصيل، وإنما كلفنا أن نأخذ العبرة والعظة من مصارع الله في الكون، وأيضاً يعلم الله جل شأنه ما يكون، ويعلم ما سيكون، وهذه هي العقبة التي تقف عندها جميع العقول ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت)) [لقمان:34].
أي أن كل العقول البشرية، والعلم البشري مهما توصل إليه، ومهما حاول أن يتقدم لا يمكن أن يعرف ما سيكون بعد لحظة واحدة، وفي هذا إفحام من الله عَزَّ وَجَلَّ لهَؤُلاءِ المخلوقين، فهذا العلم استأثر الله به وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الذي يعلم ما كَانَ وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.

ومن ذلك هذه الآية ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)) [الأنعام:28] فهَؤُلاءِ الكفار إذا وقفوا عَلَى النَّار يقولون: ((يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا))[الأنعام:27] أي يتمنون أن يعودوا إِلَى الدنيا ولئن عادوا فلن يكذبوا بزعمهم، بل ويكونوا من الموقنين، ومع ذلك يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: ((وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ))[الأنعام:28]؛ لأن مسألة الكفر والإيمان ليست متعلقة بقضية أنهم رأوا الحق أو لم يروا الحق؛ بل هي مسألة استكبار وعناد في نفوس الكفار، كما قال الله في آية أخرى ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)) [الحجر:14، 15] فالكبر والعناد الذي في أنفس الكفار يجعلهم لا يقبلون الحق مهما رأوا من آيات الله في ذلك((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا)) [الأعراف:146] نسأل الله أن يعافينا من الكبر ومن الاستكبار والعناد وأن يرزقنا الإخلاص والانقياد والإذعان لأمره والتسليم له.
وأيضاً قوله تعالى:((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُم)) [الأنفال:23] -على افتراض ذلك- ((لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ))[الأنفال:23]
.
إذاً هو يعلم جل شأنه ما كَانَ وما سيكون وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون.
قَالَ: وفي ذلك رد عَلَى الرافضة والقدرية.