وهذا هو الوجه الأول: وهو أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا المعنى: (ليس) فعل ناسخ والكاف زائد (مثل) اسم مجرور، وهذا المثل في موضع خبر ليس، بحيث لو كَانَ غير قرآن لقلنا: ليس مثله شيء، وإعراب (شيء) اسم (ليس) متأخر.
وهذا الإعراب عَلَى أساس أن الكاف زائدة، ومن المعلوم أن زيادة المبنى -أي: زيادة اللفظ- لا بد أن تقتضي الزيادة في المعنى، وهذه الزيادة لتأكيد نفي المثل في قوله تعالى:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وقد ذكر المؤلف: أن هذا الوجه قوي، وهو الذي اختاره، ويقويه ويستدل عَلَى ذلك بما ورد في كلام العرب مما يدل عَلَى زيادة الكاف كما في الأبيات التي أوردها:
ليس كمثل الفتى زهير
ومقصود الشاعر بهذا أن نقول: ليس مثل الفتى زهير أحد من الخلق، فقَالَ: ليس كمثل الفتى زهير، وذلك زيادة لتأكيد أنه ليس هناك من يشبه زهير في الخلق.
وقال آخر (ما إن كمثلهم في النَّاس من أحد)، أو (ما إن كمثلهم في النَّاس من بشر).
والكاف في هذا المثال زائدة، ومراد الشاعر أن يقول: ليس مثلهم في النَّاس من أحد، لكنه جَاءَ بحرف الكاف الزائد لزيادة التأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا الوجه متكون من فعل ناسخ، وخبر مقدم، ومبتدأ مؤخر، وزيدت الكاف في الخبر المقدم وهو "مثل" للدلالة عَلَى تأكيد المعنى، وحرف الصلة الزائد يعمل لفظاً، وإن لم يكن يغير الحقيقة، وزيادته تدل عَلَى أنه لا بد أن يكون له معنى، وتكون دلالته عَلَى التأكيد غالباً، كما في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه)) [فاطر:3] أي هل خالق غير الله؟ فـ(مِنْ) هنا حرف جر زائد، زيادته للتأكيد، ولهذا يأتي التابع الذي بعده معطوفاً مرفوعاً بناءً عَلَى المحل ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ))[فاطر:3] فجاء بحسب المحل؛ لأن المحل مرفوع ولم يأت بحسب اللفظ.
وإن كانت (من) في اللفظ أدت إِلَى خفض قوله (خالق)، كما أن الكاف هناك خفضت قوله: (مثل)، لكن هذا الأثر اللفظي لا يغير من مقصود الألفاظ والعبارات شيئاً، وهذا المعنى واضح إن شاء الله.
يقول: (وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:"وصاليات ككما يُؤْثَفَيْن"، أي كما أن الكاف تزاد في (مثل)، فإنها تزاد أيضاً في (كما)، وأصل البيت أن يقول: (وصاليات كما يؤثفين)، فزاد الكاف وقَالَ: (وصاليات ككما يؤثفين)، وهذا أيضاً من الشواهد الدالة عَلَى أن الكاف قد تأتي زائدة، ويذكر أيضاً البيت الآخر وهو المنسوب إِلَى رؤبة بن العجاج الرجّاز العربي المشهور فيقول :
فأصبحت مثل كعصف مأكول
ومراد الشاعر أن يقول: أصبحت مثل عصف مأكول، أو فأصبحت كعصف مأكول لكنه جَاءَ بمثل وبالكاف معاً للدلالة عَلَى التأكيد، لا سيما وأنَّ وزن الرجز يقتضي أن يأتي بكلمة، فجاء بكلمة فيها زيادة معنى.
والرجز من البحور الشعرية الستة عشر التي أصّلها الخليل بن أحمد وهو من أكثر أشعار العرب.
والعرب يستخدمون الرجز كثيراً وخاصة في مواضع القتال، أو في المواقف التي فيها الحمية والحماس.
ومعظم الرجز يأتي في المعارك ومثاله ما تمثل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره:
هل أنتِ إلا أصبع دميتِ            وفي سبيل الله ما لاقيتِ
ومنه قول جعفر الطيار:
يا حبذا الجنةُُُ واقترابها            طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابُها            كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
والقصد أن الراجز أتى بالحرف الزائد من أجل وزن البيت، وهذا الحرف فيه زيادة في المعنى.
إذاًً تأتي (الكاف) زائدة كما في قول رؤبة: (فأصبحت مثل كعصف مأكولِ) ومثله قوله تَعَالَى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11].

الوجه الثاني من الأعراب: أن الزائد هو كلمة (مثل)، فمعنى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ)) أي ليس كهو أي كذاته - تَعَالَى - شيء ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فـ(مثل) هنا زائدة؛ لأنه ليس لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل، فننفي هذه المثلية.
ويكون (الكاف) هو حرف التشبيه و(مثل) اعترضت بين الجار والمجرور بحيث لو كَانَ في غير القُرْآن لقلنا ليس كهو شيء وهو السميع البصير، وعلى هذا يرد قوله تعالى: ((فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا))[البقرة:137] فإن المقصود: فإن آمنوا بالقرآن، أو فإن آمنوا بالله عَزَّ وَجَلَّ فتكون "مثل" في هذه الآية زائدة المعنى زائدة اللفظ.
ولعل من الملاحظ أن هناك فرق بين هذه الآية وبين الآية التي في الشورى ففي آية الشورى نجد أن الحرف هو "الكاف" والاسم هو "مثل" والأحق أن حرف الكاف هو الزائد وأن "مثل" أصل في الكلام.
وعلى هذا كَانَ هذا القول -أي القول الثاني- قولاً بعيداً لأن القول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.

الوجه الثالث من الإعراب: أنه ليس في الآية زيادة أصلاً، فعندما تقول العرب: (مثلك لا يفعل كذا) فكأنهم قالوا: (أنت لا تفعل كذا)، أي: مثلك لا يليق به القبائح، ويأتوا بكلمة " مثل " والمقصود بها أنت المخاطب، فقوله سبحانه: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) أي ليس كذاته شيء، ليس كهو شيء، وعلى هذا تكون " مثل " غير زائدة وإنما جرت عَلَى أسلوب العرب وأتى بـ "مثل" للمبالغة وقالوا في معنى المبالغة: ليس كمثله مثل -لو فرض له مثل- فكيف ولا مثل له، أي: ليس لله عَزَّ وَجَلَّ مثل، لكن لو فرض ذلك فإنه ليس لمثله مثل، فيكون هذا المعنى أقوى في نفي المثلية عن الله عَزَّ وَجَلَّ.
وأصحاب هذا القول لا يريدون أن يثبتوا الزيادة في كلام الله تَعَالَى لأن بعض النَّاس عندما يسمع بعضهم يقول: " لا " زائدة في قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [القيامة:1] يقول: لا يجوز أن نقول: إن في القُرْآن شيء زائد.
وكذلك في هذه الآية إنما فيها معنى أصلي والآن نعرف المقصود بالزيادة في كلام الله.