والثاني: أن يكره الإِنسَان بعض ما أنزل الله ويجامل أعداء الله ويقول: ((سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ))[محمد:26] فلا يسلم تسليماً كلياً قاطعاً لما أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا قدر موجب لإحباط العمل، فلذلك قال في آخر الآية: ((فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ))[محمد:28] لأن كراهية بعض ما أنزل الله سبب من أسباب إحباط العمل.
فلو أن أحداً آمن بدين الإسلام كله وبشريعة الإسلام كلها، إلا أنه لم يؤمن بحرمة الربا -مثلاً- أو يكره في نفسه كون الربا حرام، أو كون الزنا حرام، أو يكره ويتضجر من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع للمرأة أن تقرَّ في بيتها وأن لا تتبرج وهو يريد هذا التبرج، أو يكره هذه الآيات، ويكره هذا الحكم، وإن كَانَ مسلماً منقاداً لبقية الشريعة فإن هذا كله يؤدي إِلَى إحباط عمله - والعياذ بالله؛ لأن هذا اعتراض وكراهية لبعض ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

ومن هذا أيضاً ما كَانَ في نفاة الصفات كالذين تحدث عنهم المؤلف كـابن أبي دؤاد حيث أشار عَلَى الخليفة المأمون -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم والعياذ بالله فقد كره أن يكتب ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11]؛ لأن في نظره أن السمع والبصر من صفات المخلوقين، فيكون فيها تشبيه، أما العزة والحكمة، فلا تدل عَلَى التشبيه، وهذا من جهله، وعقله الفاجر.
فإن البشر أيضاً فيهم العزة وفيهم الحكمة، كما أن فيهم السمع وفيهم البصر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أثبت العزة له ولرسوله وللمؤمنين، وكذلك أثبت الحكمة لبعض عباده فَقَالَ تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة)) [لقمان:12] وعليه فليس الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين أن نرد بعض الصفات ونؤمن ببعض! وإنما الفرق أن نقول: إن ما يتعلق بذات الله من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف اختلافاً كلياً عن صفات المخلوقين، فلله تَعَالَى صفات لائقة بجلاله، وللمخلوق صفات لائقة به وهو الجاهل والناقص والعاجز.

وكذلك ما ذكره عن الجهم بن صفوان أنه قَالَ: وددت أني أحُكُّ من المصحف قوله تعالى:((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] أعاذنا الله من الغواية والضلال، ومثله امرأة جهم فقد سمعت رجلاً يقرأ قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] فقالت: محدود عَلَى محدود ليس هكذا.
لذلك قال بعض العلماء: إن الجهمية يريدون أن يثبتوا أنه ليس في السماء شيء، وليس فوق العرش شيء، وهم -كما ذكرنا- يثبتون مجرد وجود مطلق لا يوصف بأي شيء، وهذا من الجرأة عَلَى الله، ومن الزيغ، ومن مرض القلب والضلال.

ومثال ثالث: وهو عمرو بن عبيد ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً لما يقرأ قوله تعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1] يتضجر ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقله الفاجر الضعيف يقول كيف ينزل الله هذه الآية ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1] وفيها دليل عَلَى أن أبا لهب سيموت كافراً.
وأبو لهب مازال حياً؟! وهذا السؤال يورده الفلاسفة على الجهمية فيقولون: إن من آمن دخل الجنة، فكيف يكون موقف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعل أبو لهب ذلك؟ ولما سمع عمرو بن عبيد هذه الشبهة ولم يعرف لها جوباً، قَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف فنرتاح من المشكلة وجوابها! نسأل الله العفو والعافية.