المادة كاملة    
يدور الحديث في هذا الدرس حول قضية أن أقدار الله تعالى تنفذ على العباد، وأن الإنسان عاجز بنفسه، مع ذكر الفرق بين بعض المقامات، وكذلك الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وتبيين بعض الفرق الضالة في فهم حديث: (من عادى لي ولياً) والرد عليهم، وبعد ذلك تمّ بسط الحديث عن مسألة القضاء والمقضي والفرق بينهما، ومن هم المخالفون لأهل السنة في هذه المسألة، وكذلك مسألة أفعال الله تعالى، وأخيراً ورد التنبيه على ضرورة عدم خوض العوام في مسألة القدر، وأنه إذا أشكل عليهم شيء سألوا أهل الذكر.
  1. نفوذ الأقدار وعجز الإنسان بنفسه

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصناً حصيناً { فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي} ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نُصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه.
    فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه؟
    فالجواب أن يقال:
    أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يُسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يُغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم .
    ويقال ثانياً: هنا أمران:
    قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى .
    ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.
    ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما، تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به، مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به.
    ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله، نَسخطه ولا نَرضى به] إهـ.

    الشرح:
    ختم المصنف -رحمه الله- مسألة القدر ببحث لقضية القائلين بأن الإنسان إذا شهد مقام الحقيقة الكونية -كما يزعمون- فإنه يكون قد وافق المشيئة، ويعتبر أن كل أعماله التي تجري وتصدر منه على وفق رضى الله وشرعه وإرادته نظراً لجريانها وفق مشيئته وإرادته الكونية، ورد عليهم المصنف رحمه الله بقوله: إن هؤلاء أعمى الخلق وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فلو أن الأمر هو موافقة القدر والمشيئة، وليس موافقة الأمر الديني من الأمر والنهي لكان قوم نوح وهود وصالح وفرعون وقوم لوط وشعيب كلهم طائعون لله عز وجل لأنهم لم يخرجوا فيما ارتكبوا من ذنوب وقبائح وما واجهوا به أنبياءهم عن مشيئة الله وقضائه وقدره، فإذا كان كل ما قدره الله تعالى مرضياً له محبوباً عنده وغاية ما يريده من الخلق أن يوافقوا قدره الكوني، فإن هؤلاء من أرضى الناس وأعلمهم .
    لا شك أن هناك فارقاً دقيقاً وحاجزاً بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، وإنما تختلف الأفهام والأنظار إلى الأمر الواحد، ويترتب على ذلك اختلاف الأعمال .
    قال المصنف: [ لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه ] أي: إذا استحضر العبد عجزه وجعل عجز نفسه أمامه كأنه شاهد بعينه عجز نفسه وهذا من أخص خصائص الإنسان أنه عاجز بالذات، ففقره ذاتي، وعجزه ذاتي، كما أن الله سبحانه وتعالى غناه وقوته وعلمه لذاته سبحانه وتعالى من غير معين، ولا سبب خارجي، أما الإنسان ففقره ذاتي، فلا يستطيع أن يكون غنياً إلا لسبب يقدره الله سبحانه وتعالى، وإذا شهد عجز نفسه نفوذ الأقدار فيه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لو اجتمعت الأمة على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وكمال فقره إلى ربه كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] فالخلق محتاجون إلى الله فيما يطعمون وفيما يتمتعون به من فهمه كما قال الله تعالى: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) [هود:6] ((مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذاريات:57، 58] فله تبارك وتعالى المنِّة على كل أحد وليس لأحد أبداً منِّة على الخالق العظيم سبحانه وتعالى.

    قوله: [وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين] فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين } فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى، فلا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه، ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في كل وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم: "إني لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي"، فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى، فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت، لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.
    ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض، ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله تبارك وتعالى،
    والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه وما من قلب يرقى في درجات الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيه ورسوخ إيمانه ويقينه، فإذا شهد العبد ذلك واستشعره دائماً.
    الجواب: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصناً حصيناً، ثم ذكر الحديث أو جزءاً منه مضمناً إياه الكلام [ فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ] فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة إذا استشعر فقره واستشعر مراقبة الله تبارك وتعالى له في كل وقت، وهي درجة الإحسان، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} .
    فهو يرانا كل حين، فما نلفظ من قول، ولا نعمل من عمل ولا حركة ولا سكون، إلا والله تبارك وتعالى مطِّلع ورقيب علينا، ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) [غافر:19] .
  2. الفرق بين مقامين في المراقبة

     المرفق    
    إذا استشعر العبد افتقاره، وعلم أنه لو وكل إِلَى نفسه طرفة عين لغفل عن طاعة الله، ووقع في معصيته، وربما هلك بسبب ذلك، ففي هذه الحالة لا يتصور منه صدور الذنب، هذا هو الفرق بين المقامين، أُولَئِكَ يقولون: إذا استشعر العبد وشهد أن ما يفعله هو مقدور لله مقضي له، أصبحت أعماله جميعاً طاعات، لكن أولياء الرحمان لا يقولون هذا، بل ذلك باطل أشد البطلان، وأما الحق فهو: أن تستشعر هذه الحالة العالية السامية، فحينئذٍ لا تفعل الذنب، لأنك متى مرَّ بك حال تستشعر فيه أن الله رقيب مطلع عليك، وأنك لو عصيته لوكلك إِلَى نفسك فتكون الأعمال صالحة لذلك، لأنها وفق درجة الإحسان لا وفق القدر.
    1. متى تكون الأعمال طاعات

      تكون أفعال العبد طاعات إذا كانت جميعاً عَلَى مقتضى مراقبة الله سبحانه خاصة، واستشعار عظمة الله، واستحضار افتقاره إِلَى الله تعالى، وأن أقداره تنفذ فيه، بنى عَلَى ذلك دوام الصلة بالله، ودعاء الله الهداية والثبات، فتكون الأعمال حينئذ طاعات، إذاً هذا مفرق طريق بين هَؤُلاءِ وبين هَؤُلاءِ.
    2. جمع روايات ( من عادى لي ولياً )

      هذه إحدى الروايات في حديث الولي المشهور {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا حبيته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها} وهذه الرواية تفسر تلك التي فيها: {فبي يسمع، وبي يبطش، وبي يمشي} ولهذا قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ بالله لا بنفسه، ثُمَّ جَاءَ برواية {فبي يبطش، وبي يسمع} حتى نفهم الروايات الأخرى الواردة في الصحيح وهي {كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش به، ورجله التي يمشي بها} وهذا يوضح ذلك.
    3. فهم الملاحدة وأصحاب الحلول ووحدة الوجود لحديث الولاية

      فهم أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، من الحديث السابق فهماً باطلاً لا يفهمه مسلم لديه عقل أو أدنى إيمان يخرج به عن حد الكفر، ففهموا أن الإِنسَان في هذه الحالة يكون هو الله -تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً- لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مستوٍ عَلَى العرش وفوق المخلوقات، وذاته عَزَّ وَجَلَّ لا تشبه الذوات، ولا تحل في الذوات، وأما العباد فهم عباد مخلوقون، وهم كثيرون في كل زمان ومكان، فكيف يتصور عاقل أن معنى الحديث أو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ هو سمعه أو بصره أو يده أو رجله بذاته -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- لا يمكن هذا، لكنهم أرادوا أن يلبسوا عَلَى العباد بدعوى أن هذا الحديث فيه حجة لهم.
      ويذكر المُصنِّفُ هنا الرواية التي تبين تلك الرواية، وهي حالة أن العبد إذا تقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنوافل، بعد أداء ما افترض عليه من الفرائض، لأن الفرائض هي أعظم ما يتقرب به العبد، لقوله: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه}.
      ولهذا كَانَ السلف الصالح -رضوان الله تَعَالَى عليهم، وهم أفضل القرون وهديهم خير الهدى؛ لأنه تبع لهدى المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانوا أحرص النَّاس عَلَى أداء الفرائض، ثُمَّ خلف من بعدهم خُلُوف توسعوا في النوافل وضيعوا بعض الفرائض، ثُمَّ وقع الخلل في الأمة الإسلامية حتى أصبحت تجد من يتمسك ببعض النوافل وربما ضيع أصل من أصول الدين، وهي العقيدة، ولو علم إنسان أنه لو قام الليل لنام عن صلاة الفجر، لوجب عليه أن ينام ويقوم لصلاة الفجر، لأنه سبحانه يقول: {ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه} والنوافل لها قيمتها {وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه}
      .
      لكن الأمور يجب أن توضع حيثما وضعها الشرع، فالعبد الصالح إذا فعل ذلك فإنه يصبح في هذه الحالة حركاته وسكناته وخطراته كلها فيما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن فعل فبعون الله وبتأييده، ولهذا انظروا إِلَى حال أولياء الله الصالحين والدعاة المصلحين الموفقين بتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كيف كانوا؟
      كَانَ الواحد منهم يعظ النَّاس بكلمة أو بكلمات فيفتح الله تَعَالَى له القلوب -وليس الآذان فحسب- فتؤثر في الناس؛ لأن هذا الكلام بتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصاب كبد الحقيقة، ووقع في المحز وفي المفصل وفي القلوب الغافلة، فاستيقظت وتفتحت، ويأتي إِلَى عدو من أعداء هذا الدين، فيرميه فتكون تلك الرمية الموفقة، سواءً رماه بسهم أو بسيف، أو رماه بردٍ أو حجة وبرهان علمي، بتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن هنا قال الله: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17].
      وفي هذه الحالة يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يسدد عبده المؤمن ويوفقه، والعبد يفعل وله إرادة، ولا نقول كما قال المبطلون عياذاً بالله: إن الله هو الذي يفعل والعبد لا إرادة له -فضلاً عما هو أشد من ذلك- بل العبد يفعل وله إرادة، لكن بلغ من خشيته لله وشهوده لحق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، في اليقين في مرتبة الإحسان أن أصبحت كل أعماله وفق ما أراد الله، ووفق ما شرع، ولهذا فإن ربه عَزَّ وَجَلَّ، هو الذي يسدد رميته، ويوفق قوله، ويصوب عمله.
  3. أعظم الأولياء أبو بكر

     المرفق    
    أعظم الأولياء أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فلم يؤثر عن أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ في أحكامه وفي فقهه، ورأيه أي قول خالف فيه السنة، مع أن الذين من بعده من الصحابة نقل عنهم في بعض المواضع خالفوا فيها بعض الأحاديث، إما اجتهدوا فيها أو لم تبلغهم الحجة، أو بأي حكم من الأحكام، لكن غاية ما نجد أن الصديق رضي الله تَعَالَى عنه قد لا يبلغه الدليل، لكن لم ينقل عنه أنه اجتهد أو قال بما يخالف السنة، هذا بعد وفاته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما في حياته فهو في كل أمر موافق مطيع، فهذه الدرجة العليا درجة الإحسان ودرجة الصديقين، التي يكون هوى صاحبها تبعاً لما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموافقة للشرع من جميع الوجوه.
    1. المقياس الشرعي للولاية

      يعد أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ من أعظم النَّاس ولاية لله تعالى، ثُمَّ النَّاس بعد ذلك بحسب ولا يتهم وقربهم من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما وفقهم له من الفقه والعلم، يكونون أقرب إِلَى إصابة الحق وموافقة السنة من غيرهم، وهذا هو المقياس الشرعي للولاية، وليس ما جعله أُولَئِكَ الضالون المضلون، ومعنى قول المصنف: إنه لا يتصور من ولي الله الذنب في هذه الحالة، أي: فكيف يأتي الذنب، وهو لا يأتي إلا في حال الغفلة والجهالة.
    2. تفسير السلف لقوله تعالى: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ))

      والجهالة: ليست الجهل بالحكم أنه حلال أو حرام، بل الجهالة هي الجهل بمقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجهل بقدر الله.
      قال بعض السلف: "ما عصى الله عَزَّ وَجَلَّ أحد إلا بجهالة" أي: في حالة وقوع الذنب يكون العبد قد جهل مقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عظمه حق تعظيمه، وما قدره حق تقديره، والقلوب عَلَى ذلك شواهد، فيعتري المؤمن حالات تصفو فيها نفسه وقلبه، ويرسخ ليقينه وإيمانه ويذكر ربه عَزَّ وَجَلَّ، فلو عرضت عليه معصية وخُيِر بين أن يفعلها وبين أن يلقى في النَّار أو يعذب أشد العذاب، لاختار هذا العذاب الأليم، ثُمَّ يعرض للقلب غفلات، وإذا بالنفس تهفو وتتطلع إِلَى أن تفعل تلك المعصية بذاتها التي كانت في تلك الحالة، وأصحاب النفوس اللوامة يشهدون هذا التفاوت دائماً، لكن أصحاب النفوس المطمئنة لا تلمُّ بقلوبهم إلا خطرات.
    3. أعظم الناس إيماناً ويقيناً

      أعظم النَّاس اطمئناناً ويقيناً وإيماناً بالله هم من أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليهم السكينة، وشهد لهم بالإيمان والطمأنينة والذكر وهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ثُمَّ أهل القرون المفضلة ومن اقتفى نهجهم، .
      فإذا حُجب عن هذا المشهد، وبقي بنفسه أي لا بربه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك، والأشراك وأرسلت عليه الصيادون، والشراك هو الذي تقع فيه الفريسة وتقيد به، أي: أن الإِنسَان في هذه الحالة إذا غفل، واستولى عليه حكم النفس لا حال المراقبة واليقين، ولكن غلب عليه حال الهوى والشهوات، فمن كانت نفسه أمارة عليه فبماذا تأمره؟ ومن الذي وعده بالجنة وجعلها مأواه؟ ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))[النازعات:40-41].
      لكن إذا سيطرت النفس وسيطر الهوى، حتى كَانَ كحال من اتخذ إلهه هواه، فحينئذ لا تأمره إلا بالشر، فالقلوب المؤمنة، والنفوس اللوامة، إذا اعترتها هذه الحالة وقعت في شراك الشيطان، والشهوة، والشبهة، والمعاصي، وحينئذٍ يكون الأمر والنتيجة عَلَى حالين: إما أن يفيق العبد، ويتوب وينيب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا ما ذكره المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عندما قَالَ: [فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كَانَ في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجودٍ آخر فبقي بربه لا بنفسه] وهذه الحالة، حالة من ثبته الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ)) [آل عمران:135] فماذا فعلوا ((فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم)).
      إذاً وقعوا في الشرك لكن تذكروا فاستغفروا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتابوا وأنابوا إليه، فتعود النفوس إِلَى اطمئنانها، وينقشع ذلك الضباب وذلك الحجاب وذلك الران الذي حصل نتيجة حيلولة النفس بين العبد وبين مرضاة ربه عَزَّ وَجَلَّ،
      .
      والحالة الأخرى: من غلبه الهوى والشهوة، فالشهوة إثر الشهوة والهوى إثر الهوى، حتى يطبع عَلَى قلبه، ويغلب عليه الران، فحينئذٍ لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولهذا كَانَ السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أحرص النَّاس عَلَى الثبات، وعلى الاستقامة، وكانوا أخوف النَّاس من النكوص ومن انقلاب الحال وتغيره إِلَى حال لا يرجى معها انتقال ولا شفاء، ثُمَّ يعود رحمه الله تعالى بعد ذلك، في مسألة القدر، وموقف المؤمنين منه.
  4. شبهة: إذا كان الكفر واقعاً بقضاء الله فكيف ننكره ؟!

     المرفق    
    يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [فإن قيل: إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟] وهذه الشبهة تقع لكثير من النَّاس.
    فالجواب أن يقال:
    أولاً: نَحْنُ غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضي الله؛ لأن بعض النَّاس قد لا يفقه ذلك، ومن هنا أُتي الصوفية، وأمثالهم، أي: من عدم الفقه في الدين أو سؤال أهل العلم وأهل الذكر، فقولهم: إن الله قدر ونحن نرضى بما قدر، يقال لهم:لم نؤمر بأن نرضى بكل ما قدره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي قدر الكفر هو الله، والذي قدر الزنا والمعاصي والفواحش جميعاً عَلَى العباد هو الله، لأنه لا يقع في الكون إلا ما قدره الله، فلا يجب أن نرضى بها، وهل نتعبد الله بالرضى بالكفر؟ لا. فمن فعل ذلك فقد كفر؛ لأنه هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر))[الزمر:7] وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْل))[النساء:108].
    فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يرضى بها، فنحن كذلك لا نرضى بكل ما قدره الله.
    إذاً: رضانا وغضبنا يدور مع الشرع، مع الأمر والنهي لا مع المشيئة والقدر الكوني، فرضانا تبع للشرع، فما رضيه الشرع لنا من الأمر والنهي رضينا به، وما كرهه كرهناه، وهذا المقام مقام الرضا طويل، وقد ذكره صاحب كتاب مدارج السالكين وكذلك صاحب كتاب منازل السائرين الهروي في ذكر منزلة الرضا، ووقع في خبط وخلط.
    1. تعقب الإمام ابن القيم على الهروي

      تعقب الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين في الجزء الثاني عَلَى صاحب كتاب منازل السائرين ابتداءً من صفحة 117، لأن من الرضا ما هو محمود مطلوب، بل من الدرجات العليا من درجات الإيمان، وهو الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً، ولا يكون العبد مؤمناً إلا به، فبقدر رضاه بذلك يكون انقياده ويكون إذعانه، ويكون إيمانه.
      ولذا ورد أن من قَالَ: {رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً} في الصباح والمساء كَانَ حقاً عَلَى الله أن يرضيه. لأنه قال هذا رضاً بشرع الله. فمن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، فقد رضي بكل أمرٍ أمر الله به، وبكل سنة سنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      إذاً: هذه درجة عظيمة، فحقاً عَلَى الله جل وعلا تكرماً منه أن يرضي من قال ذلك؛
      وفي الرواية الأخرى {دخل الجنة} هذا هو الرضا.
    2. الواجب علينا أمام القدر

      أما الرضا بالقدر عَلَى المصائب فله تفصيل. لأن الرضا بالدين معروف، لكن هناك أقدار قضاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإذا وقع القدر وكان مما لا يرضينا أو مما نكره، فالذي أُمِرَنا به هو الصبر، ولو أُمِرَنا بالرضا لكان في ذلك مشقة علينا.
      لكن الذي أمرنا به فضلاً من الله تَعَالَى هو الصبر، فالكره: أمرٌ جبلي خلقي طبعي لا نستطيع أن نتخلص منه. لكن أن نسخط أو أن نقنط، فهذا مما لا يجوز: والعبد يستطيع أن يصبر، كما فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما {رفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}، فليس هناك أحد أكثر رضاً بالقدر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أعلى منه منزلةً، وهل هذا الصبر منعه من أن تدمع عينه لما مات ابنه إبراهيم وقال: {إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا}.
      فهذا هو حال المؤمن، وليس معنى ذلك أن يغير طبيعته كما فعل ذلك بعض المتصوفة عندما مات ابن له فحلق لحيته، وأخذ يضحك أمام النَّاس، ويقول: (أُرِاغَمَ نفسي وأرضى بقدر الله وقضاءه) فهذا عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجعل من نفسه أمثولة؛ لأنه إِلَى ما قبل القرن العشرين كَانَ حلق اللحية مُثلة، عقوبة يُعاقب بها، فإذا أُريد أن يعاقب أحد حتى في الدول الكافرة تحلق لحيته.
      وكانت بعض الأمم الممسوخة -كما كَانَ بعض المجوس- يفعلونه ومنهم الذين قدموا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مسخ للفطرة، ولهذا أنكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشاهد أن هذا الصوفي لما فعل ذلك جعل نفسه مُثلة، وأضحك النَّاس عليه، وهو بزعمه يظن أنه يراغم النفس ويرضي الله؛ لأن ابنه قد مات، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل النَّاس يقول: {إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له} فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بالله وأتقاهم له، ومع ذلك حزن قلبه، ودمعت عينه، فنحن مأمورون بالصبر
      .
      أما الرضا فكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "أما الرضا فلم نؤمر به"، وما ورد من الأدلة يدل بعمومه عَلَى مدح من يرضى، والثناء عليه لا عَلَى وجوبه، ولهذا إذا كَانَ من باب الثناء والمدح فهو مندرج ضمن حالة الصبر، أي: أن يصبر العبد ويبلغ به الصبر أن يرضى بما قدر الله، دون أن يتعدى ذلك إِلَى مخالفة الفطرة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أن يقال: إن أحداً قد فاقه أو يفوقه في ذلك المقام أبداً، فإذاً: لم يرد في الكتاب والسنة ما يوجب علينا أن نرضى بكل ما يقدره الله، بل الحال في ذلك تبعٌ للأمر والنهي.
      يقول: [بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخط ويمقت] وهذه العبارات إِلَى نهاية قوله: [والتعمق والنظر] منقولة من مدارج السالكين، لكن في موضعٍ آخر (في الجزء الأول صفحة 256).
      إذاً من المقضي ما يُرضى به، ومنه ما يُسخط ويُمقت لماذا؟ يقول: (كما لا يرضى به القاضي لأقضيته) أي أنه سبحانه القاضي الذي قضى بهذا القضاء لم يرضَ به.
      وقد لعن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الكافرين ((أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) [البقرة:159] وذمهم في مواضع كثيرة، والمؤمن في ذاته ليس ملعوناً، وليس مغضوباً عليه في ذاته، فقد يفعل من الأفعال ما هو ملعون أو مغضوب عليه، أو غير مرضي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواءً في الأفعال أو في الذوات أو في الأعيان منها ما يبغضه الله ولا يرضاه، ونحن إذاً لا يجوز لنا أن نرضى بكل شيء، هذا هو الجواب الأول.

      والجواب الثاني: قال: [هُنا أمران: قضاء الله، وهو: فعلٌ قائم بذات الله، ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه] هذا الموضوع فيه دِقة، وقد اختلف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية، فالأشعريّة جبريّة جهميّة، لكنهم لم يقولوا: إن الإِنسَان كريشة في مهب الريح، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بالجبر.
    3. اختلاف أهل السنة مع الأشاعرة في مسألة أفعال الله

      اختلف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية في مسألة أفعال الله سبحانه، فَقَالَ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كما قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ''وهو قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي''، وهذا معروف بالبديهة، فلو فكرت لوجدت أن القضاء غير المقضي، فقضاء الله فعله، والمقضي أثر القضاء، وآثار قضائه يدركه العقل والفطرة فَيَقُولُ: (قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، وما قام به -بذاته واتصف به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل عَلَى الخير والشر، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل].
      فمن حيث إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق إبليس، وخلق الكفر، وخلق الشر، وأن الله قضى ذلك فهذا حق، لكن من حيث إن هذه الأعيان أو هذه الأفعال مذمومةٌ أو ملعونة شرعاً فهذه من جهة الشرع فيها الحق وفيها الباطل، ومنها ما يحمد ومنها ما يُذم، ومنها ما نرضى به ومنها ما نكره، لكن من حيث اتصاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه هو الذي يقضي، وله القضاء، وله الأمر فهذا حق، فالقضاء كله حق، لكن المقضي هو أثر القضاء أعياناً أو أعمالاً، فمنها ما يرضى ومنها ما يسخط، ومنها ما هو حق ومنها ما هو باطل، بميزان الأمر والشرع.

      فهُنا قال السلف هذا القول، فجاء الأشعرية وَقَالُوا: القضاء هو عين المقضي، والفعل هو عين المفعول، ولهذا وقعوا في الجبر، أو لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم هذا السؤال، ومنهم أبا بكر الباقلاني، شيخهم وإمامهم الأكبر، والسؤال الذي يسائله المُصنِّف هُنا [إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرههُ؟ وهذا عجز لأنه لا يفرق بين القضاء وبين المقضي،
      لكن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يفرقون، ولهذا يقولون: نَحْنُ نؤمن بالقضاء، ونحب قضاء الله، لكن نكره المقضي الذي هو الكفر، فيقول فهُنا أمران:
      قضاء الله وهو: فعل قائم بذات الله.
      ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه.
      فالقضاء كله خير وعدل وحِكَمة نرضى به كله.
      والمقضي قسمان: منه ما يرضى، ويوضح ذلك الوجه الثالث لأنهما متقاربان.
      والقضاء الذي قضاه الله له وجهان:
      أحدهما: تعلقه بالرب تَعَالَى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يُرضى به.
      والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إِلَى ما يرضى به، وإلى ما لا يُرضى به. ولهذا قال الله تَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)) [فاطر:8].
      ومن هنا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يصبر من جهة أن الله يدخل من يشاء ويهدي من يشاء، ولا يعني ذلك أن يرضى بكفرهم فلم يأمره ربه بذلك وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو الذي جاهدهم واستمر في جهادهم، لكن مع المجاهدة لم يؤمنوا؟ لأن الهداية والضلالة بيد الله تعالى، فقد كتب عليهم الشقاوة فليكونوا كذلك، فعليك أن تسلم بما كتب الله، ولهذا جَاءَ في سورة الأنعام ما هو أشد من ذلك، قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له:((وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:35] فلا يستطيع ذلك ولن يفعل.
      وإنما هذا زيادة في تثبيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عدم اليأس والتحسر، وإنما عليه البلاغ وهذا له مقام آخر، وذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ مثالاً عَلَى ذلك فقَالَ: لو قتل إنساناً نفساً، القتل له اعتباران من حيث قدَّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره يرضى به، وهذا أمر كتبه الله وقدَّره قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا مبدل لقدر الله ولا معقب لحكمه، فنرضى به من هذه الجهة، لكن لا نرضى عن القاتل، ولا نرضى عن فعله، فيُقَالُ: من حيث إن القاتل صدر منه القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به، وبهذه الأجوبة الثلاثة نكون قد أجبنا عَلَى السؤال الذي هو: كيف نرضى إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره؟
  5. أمور العقيدة من أمور الغيب

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وقوله: [والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان] إِلَى آخره، التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان. الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقارب المعنى.
    وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضاً.
    لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة. وقوله: فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة.
    عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {جَاءَ ناسٌ من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قَالَ: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان} رواه مسلم.
    الإشارة بقوله: {ذاك صريح الإيمان} إِلَى تعاظمهم أن يتكلموا به.
    ولـمسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {سئل رَسُول الله عن الوسوسة، فقَالَ: تلك محض الإيمان} وهو بمعنى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.
    هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثُمَّ خلف من بعدهم خلف سوّدوا الأوراق بتلك الوساوس، التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رَحِمَهُ اللهُ في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
    وعن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أنها قالت: قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم}.
    وقال الإمام أَحْمَد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: {خرج رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم والنَّاس يتكلمون في القدر، قَالَ: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قَالَ: فقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كَانَ قبلكم، قال. فما غُبطت نفسي بمجلس فيه رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده}. ورواه ابن ماجه أيضاً] إهـ.
    .
    الشرح:
    أمور الإيمان وأمور العقيدة من أمور الغيب، لأن الاعتقاد هو الإيمان بالغيب، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أول ما وصف الله به المؤمنين وصفهم بأنهم يؤمنون بالغيب.
    1. درجات الناس في الإيمان

      درجات النَّاس في الإيمان متفاوتة عَلَى حسب إيمانهم بالغيب، فمن النَّاس من يبني إيمانه عَلَى ظاهر من القول وظاهر من الدليل، ويستمر في ذلك ويثبته الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تعرض له شُبهات ولا سُقوط، فيلقى الله وهو سليم القلب وهو عَلَى درجة من الإيمان.
      ومن النَّاس من تُسلط عليه الشهوات والشبهات والشكوك ويضعف إيمانه ويقينه وسرعان ما ينقلب ذلك الإيمان وذلك اليقين؛ لأن مجرد تصديق وليس يقين، ومن النَّاس من يثبته الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويوفقه ويمنُّ عليه، فيرسخ في العلم والإيمان واليقين والصدق والإخلاص وفي الفقه في الدين، حتى يكون بالمنزلة التى جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأوليائه، الذين جعل تفاوتهم بحسب مراتبهم من اليقين ومن الفقه والعلم في الدين.
      فالمطلوب من العبد أن يؤمن بالغيب، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به، وأن يسلِّم، وأن يقوِّي ذلك الإيمان بكل ما يستطيع أن يقويه به، من الأدلة وبالحجج القرآنية وآثارها، ونعني بها الحجج الكونية العقلية النفسيّة، وأن ينظر بتدبر في ملكوت السموات والأرض، ويتفكر في أحوال النَّاس، وفي تدبير الله سبحانه له، وتصريفه لهذا الكون وتدبيره للخلق، فيزداد إيماناً ويقيناً، ويدفع عن نفسه الشبهات إذا وردت، لأن دفع الشبهات يكون بالاعتصام بالله والاستعاذة من الشيطان الرجيم، والإعراض عن الشبهة، فإن تمكنت في قلبه فليدفعها بسؤال أهل العلم لتُكشف عنه تلك الشبهة ويندفع عنه البلاء، وأمر هذا الدين مبني عَلَى الاستسلام، وإنما يثبت الإسلام عَلَى قدم الاستسلام لما أخبر به الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن من قُدِّر له أن أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العلم، ومكنه من الرسوخ فيه، ومقاومة الشبهات، والذب عن هذا الدين، فهذا كطبيب يتعمق في معرفة الأمراض لا حرصاً منه عَلَى معرفه المرض، ولكن لكي يعالج النَّاس، أو يتعمق في معرفة الأدويّة ليداوي نفسه ويداوي غيره.
    2. التعمق والنظر في أمور القدر الخفية

      يقول الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] هذا الكلام قد يُفهم عَلَى إطلاقه فيُقَالُ: إذاً لا ننظر في مسألة القدر والصفات ولا نفكر في ذلك.
      أما الوسوسة فمذمومة عَلَى كل حال، لكن من وفقه الله وفقهه في الدين وكان علمه عميقاً وراسخاً؛ فهذه درجة مطلوبة محمودة، فكل إنسانٍ يأخذ من هذا الدين ومن أمر اليقين بقدر ما يوفقه الله ويؤهله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو أراد أحد أن يتجاوز قدره لسقط ولهلك، فالتعمق والنظر في أمور القدر الخفيّة الدقيقة من إنسان لا يعرف الأدلة، ولا يعرف كلام أهل العلم ولا يستطيع أن يفقه في المسألة هذا ذريعة الخذلان.
    3. كف العوام عن الخوض في القدر

      وينبغي علينا أن نكف العوام عن الخوض في القدر، فإن كَانَ ولا بد إذا وجدنا من أحدهم شبهة راسخة كشفناها بالدليل، ولكن لا يعني ذلك أن نعرض تعاريف القدر عَلَى العامة، أو نرضى أن يخوض العامة في تفصيلات القدر وغير ذلك من أمور الإيمان؛ لأن الخوض في ذلك مَزلة الأقدام، فهو بحر لا يستطيعون أن يبحروا فيه، لكن من كَانَ لديه استعداد للفهم من الكتاب والسنة وكلام العلماء.
      فينبغي له أن يزداد علماً، لأنه بذلك يزداد إيماناً ويزداد فهماً، وعندما ترد عليه شبهة سرعان ما يدفعها لما لديه من علم؛ وينبغي أن يقيد بهذا كلام الطحاوي رَحِمَهُ اللَّهُ، وأن نعرف المقصود من كلامه، ولهذا قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [والمعني أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان].
      فقوله: ذريعة: أي وسيلة، والذريعة والوسيلة والدرجة والسلم متقاربة، وكذلك الحرمان والطغيان والخذلان متقاربة، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة، والإمام أبي جعفر الطّّحاويّ -رحمه الله- جَاءَ بعبارات أدبيّة فيها سجع، وعطف جملة بعضها عَلَى بعض، وإلا فالمؤدى واحد.

      فهذا هو الذي يجب أن يُفهم، وقوله: [والحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] ثُمَّ ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم والإمام أَحْمَد وفيه: {جَاءَ ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ فشكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوى مجملة، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو قد وجدتموه؟}.
      وجواب النبي هذا يدل عَلَى أنه كان منتظراً منهم هذا السؤال، وهذه بشرى لحديثي عهد بالتمسك، وفي رواية أخرى {لأن يصبح أحدنا حُممة محترقة}، كيف يكون حال هذا الإِنسَان الذي يود لو أصبح فحمة محترقة ولم يتكلم بهذه الشكوك والخواطر، هذا قوي الإيمان، فلهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذلك صريح الإيمان} وفي رواية أخرى {ذلك محض الإيمان} ويقول المُصنِّف هنا: [ولـمسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {سئل الرَّسُول عن ذلك، فَقَالَ: ذلك محض الإيمان}] ومعنى حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وسوسة النفس أو مدافعتها، أي أن الحديثين هما في الحقيقة وردا في موضع واحد أنه سئل عن الوسوسة، فيقول المصنف:
      [فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين الاثنين فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان]، ويمكن أن يحمل الحديث عَلَى أحد الأمرين:-
      الأمر الأول: أن يكون المشار إليه بأنه الموصوف: [محض الإيمان] هو المدافعة كما ذكر ذلك المُصنِّف ومعناه: أي أنكم ما دمتم تدافعونها فهذا دليل عَلَى قوة إيمانكم، فلا تيأسوا وهذه بشرى وخير لكم وليس شراً كما تظنون، والمدافعة والمجاهدة هذه هي محض الإيمان لأنها مترتبة عليه وناشئة عنه.
      الأمر الثاني: أن يكون (ذلك محض الإيمان أو صريح الإيمان) هو: وجود الوسوسة، لأنك في حالة قبل الاهتداء لم تكن تجد شيئاً فلما اهتديت وجدت، فوجودها دليل عَلَى وجود الإيمان، وإذا وجد الإيمان أرد الشيطان أن يبارزه في الشكوك، إذاً أنت في هذه الحالة والْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى خير، وهنا يدل عَلَى أن الإيمان قد نما في قلبك، عندما تجد تلك الوساوس، ولذلك يقول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذلك محض الإيمان} أو {ذلك صريح الإيمان}.