ذكر الإمام الغزالي في الإحياء المدخل الخفي الذي يدخل منه هَؤُلاءِ الصوفية فقَالَ: يجب عَلَى الصوفي المريد في الخلوة أن لا يشتغل بشيء، لا بحديث، ولا بقراءة القُرْآن، ولا بالتفسير، وأن يفرغ قلبه من كل شيء، وبعد ذلك تنفعل حياته.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى: لما فرغوا قلوبهم من ذكر الله ومن القُرْآن والحديث سكنتها الشياطين فوجهتهم، فأصبحت الشياطين تأمرهم وتنهاهم، ويظنون أن هذا من أمر الله وقدره، وإلا كيف يفرغ المؤمن قلبه من ذكر الله ومن القُرْآن والحديث، وبعد ذلك يظن أنه بهذا التفريغ يكون منفعلاً لما يختاره الله منه، وفي الحقيقة هو منفعل لما يختاره الشيطان، فيكون حال الشيطان في هذه الحالة كحال من قيل فيه:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خاوياً فتمكنـا
ويتمكن الشيطان من هذه القلوب الخاوية من ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيوحي إليهم أن أفعالهم جميعاً كلها طاعات كما قال الجيلي :
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً فإني في حكم الحقيقة طائع
ولهذا لا تنكر عَلَى أحد، وفي كتاب
أخبار الحلاج يقول: أحد تلامذته: مررنا بالسوق فإذا برجل عند خياط يهودي فشتم المسلم اليهوديَّ قَالَ: فغضب
الحلاّج غضباً شديداً، وأخذ الرجل أي: المسلم وشتمه شتماً شديداً، وقَالَ: لا تعترض عَلَى دين أحد قَالَ: لماذا يا شيخ؟. قَالَ: لأنك إذا اعترضت عليه أثبت له الاختيار، يقول
الحلاج: لأن الذي يختار هو الله.
ولو كَانَ لدى هذا المسلم علم لقال له: وأنا لماذا تعترض علي وأنا منفعل؟! وإذا اعترضت عليّ فكأنك تثبت أني مختار، فلماذا أنا مختار وهذا اليهودي غير مختار؟ لكنه لا يدرك هذا، لأنه عندما يرى هذا الشيخ العابد الجليل صاحب الكرامات -كما يزعمون- تأخذه الهيبة ولا يستطيع أن ينكر عليه، ويظن أنه يرشده ويدله إِلَى كيف يعظم الله؟ وكيف يعرف قدر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ .
يقول المصنف: [وهَؤُلاءِ أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية] كليهما، فأما الحكمة الدينية فكل مسلم يعلم ضرورة أن الله أمر بطاعته، ونهى عن عصيانه، وأن العبد يمكن أن يفعل الطاعات، وفي مقدوره أيضاً أن يفعل المعصية، فإن فعل الطاعة فله الأجر، وإن فعل المعصية فعليه الوزر والعقوبة، وهذا أمر بدهي يعرفه حتى عامة الناس.
فهَؤُلاءِ الصوفية أجهل النَّاس بأوامر الله الدينية والكونية، لأننا في أوامر الله الكونية لم نؤمر بالاستسلام المطلق، ولهذا لما قال أبو عبيدة لـعُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أتفر من قدر الله؟ قال له: نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، فالعافية بقدر الله والمرض بقدر الله، فإذا ابتلي الإِنسَان بمرض فهذا بقدر الله الكوني ويكون دفعه بعمل يوافق القدر الكوني، فتطلب الدواء والعلاج.
ولهذا يجب عَلَى الإِنسَان أن يتخذ الأسباب: لأن الله تَعَالَى خلق أموراً وخلق أسباباً تدفعها أو تجلبها، فأخذ الإِنسَان بالأسباب لا بد منه، وسيأتي له مبحث في آخر الكتاب إن شاء الله. والأخذ بالأسباب ينافي القدر، بل هو من القدر، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئُل: أرأيت أدوية نتداوى بها أتخالف قدر الله؟ قَالَ: هي من قدر الله، فالمرض من قدر الله، والعلاج من قدر الله.
فالصوفية هم من أجهل النَّاس بالأحكام الشرعية والكونية لأننا حتى في القدر الكوني لا بد أن ندفع القدر بالقدر،
يقول المصنف: [فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي] كيف يكون فعله كله طاعات، والطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، أي الأمر الكوني؟