المادة كاملة    
في هذا الدرس: الأمر لا يكون شراً محضاً بل قد يكون شراً من جهة وخيراً من جهة أخرى .. (العقوبات والحدود) مثال على ذلك .. مفهوم حديث: (والشر ليس إليك) عند أهل السنة والجماعة وعند المخالفين لهم في باب القدر .. أقدار الله كلها خير، لكنها من جهة معصية العبد شر .. اعتراض القدرية في هذه المسألة والرد عليهم مع التوضيح بالأمثلة .. أسباب الخير وأن مجرد الخلق والوقوع ليس بشر، وإنما توفر الأسباب والشروط تجعله خيراً أو شراً .. الحكمة وكونها في الإيجاد وأنها لا تقتضي الإمداد .. إيراد شبهات فاسدة والرد عليها ..
  1. خلق الشـر

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إِلَى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه، والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كَانَ إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.
    فإن قيل: لِمَ تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشَرِ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: (الإيجاد، والإعداد، والإمداد)، فإيجاد هذا خير، وهو إِلَى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده.
    فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده. فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده] اهـ.

    الشرح:
    العقوبات مثال من الأمثلة التي تؤيد أن الأمر قد يكون شراً من جهة، وخيراً من جهة أخرى، فالرجل الذي يسرق، ثُمَّ تقطع يده، فإن هذا بالنسبة إليه شر، لكن من إِلَى جهة أخرى فإنها خير.
    ثُمَّ يقول: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالّها خيراً في نفسها] فقوله: [الموضوعة في محالها] تخرج بذلك فيما لو عاقبت إنساناً بعقوبة، أو حدٍ وهو بريء، وإنما المقصود بقوله: [في محالّها] أي: المحل الذي وقعت في ذلك الرجل الذي عُوقب بهذه العقوبة، وذلك الحد، ثُمَّ يقول [لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له] فطبيعة ذلك الإِنسَان لا تريد الألم، وإنما تسعد وترغب في اللذة والراحة، لكن حصل لها الألم بذلك الحد، ثُمَّ يقول: [فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه] أي: أنه خير بالنسبة إِلَى الفاعل، وكذلك للمجتمع جميعاً، حيث وضعت العقوبة في موضعها.
    1. لا يوجد في خلق الله شر محض من جميع الوجوه

      ثُمَّ يقول: [فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات] وهذا هو وجه تنزيه الله عن كون الشر ليس إليه، [فإن حكمته تأبى ذلك] أي أن الله تَعَالَى حكيم، وحكمته تأبى أن يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، وإنما يخلق شراً وفيه جوانب من الخير، ويحقق به حكماً ومصالح، فَيَقُولُ: [فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال] أي: محال عن ذي العزة والجلال المتصف بصفات الكمال، أن يكون هذا من شأنه [فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه] وهذا معنى نفي الشر عن الله وتنزيه عنه [والشر ليس إليه].
  2. معنى قول النبي صلىالله عليه وسلم "الشر ليس إليه "

     المرفق    
    [والشر ليس إليه] هذه اللفظة يفهمها أهل السنة فهماً مغايراً لفهم المعتزلة لها، يقول أهل البدع: إن معنى والشر ليس إلى الله أي: أنه لم يخلق أفعال العباد، فالعباد إذا عصوا وفعلوا الموبقات والمنكرات، يقولون: إن الله لم يخلقها، فإن قلنا: إن الله خلقها أو شاءها وقدرها، فنكون قد نسبنا الشر إِلَى الله، والشر ليس إليه.
    أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيعنون بقول: [والشر ليس إليه] أي: ليس إليه شراً محضاً بوجه من الوجوه، أما إذا كَانَ الشيء قد يبدو شراً وفيه خير، أو هو شر بالنسبة إِلَى المخلوقين، ولكن فيه خيراً بالنسبة إِلَى حكمة الله، وإرادة الله، فإن هذا لا يسمى شراً، فتنزيه الله عن الشر أي: أنه تَعَالَى منزه أن يخلق أو يريد أو يشاء شراً، لا خير فيه بوجه من الوجوه، ويلاحظ الفرق بين المذهبين
    .
    ثُمَّ يقول: [بل كل ما إليه فخير] أي: كل ما إِلَى الله هو خير، حتى وإن كَانَ شراً في ذاته، فهو من جهة نسبته إِلَى الله خير، ويأتي الشر من جهة أخرى.
    1. أقدار الله خير ومعصية العبد شر

      قوله: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه] أي: أنه إذا كَانَ فيه جهتان: من جهة كونه من الله فإنه خير، ومن جهة كونه من غير الله أو فيه نسبة إِلَى غير الله فإنه شر، ثُمَّ يقول: (فلو كَانَ إليه لم يكن شراً فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً) يعني: إذا أحد عصى الله -كأن يزني مثلاً عياذاً بالله- فهذا من جهة أن الله قدره فهو خير، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقدر شيئاً إلا لحكمة، ولأمر قد نعلمه، وقد لا نعلمه، لكن من جهة أن العبد عصى الله وانتهك ما حرم الله، فهذا شر بلا شك، لكن إذا نظرنا إليه من جهة أنه مراد لله مقدر بقدر الله، فهو خير لله تَعَالَى فيه حكمة سواء علمناها أو لم نعلمها.
    2. اعتراض القدرية ورده

      أورد القدرية إشكالاً وهو قول المصنف: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة] أي: من حيث أن الله خلقه وشاءه وأوجده، لأن الله تَعَالَى خالق كل شيء، فلا يكون في الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته، فيقولون: إذاً هذا شر، فلم تنقطع نسبته إِلَى الله من جهة كونه خلقاً ومن جهة كونه مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ المُصنِّفُ راداً عليهم: [قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر] هذا الفعل من جهة الخلق، والمشيئة، ليس بشر [فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر] وجود الأشياء من حيث هي موجودة [كالنفوس الشريرة] وجودها وحركتها في ذاتها ليس بشر.
      ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه] هذا مثل ما ذكر المُصنِّف سابقاً حيث قَالَ: [فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تُرِكت تحركت بطبعها إِلَى خلافه] إذاً: الشر إنما جَاءَ من عدم إعانتها بالخير، أي من كونها وكلت إِلَى طبائعها، وإلى ذواتها، وهكذا، لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكلنا إِلَى أنفسنا لهلكنا، ولهذا كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، فالكفار خلى الله بينهم وبين أنفسهم فخذلوا خذلاناً بيناً، وليس ذلك لأن وجودهم شر، فإن الله سبحانه خلقهم، فخلقه ومشيئته في إيجادهم وخلقهم هو خير، وإنما جاءهم الشر من جهة أنهم خُذلوا، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يمدهم بأسباب الهداية، فتركوا لأنفسهم، فجاء الشر من أنفسهم، ومن شياطينهم، ومن أعمالهم التي ارتكبوها.
      يقول: [فالشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير] أي أن العدم لا ينسب، لأنه شيء لا وجود له، والعدم ضد الوجود، فليس بشيء حتى ينسب، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قَالَ: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] وقَالَ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ))[النحل:36].
      فبعث الله تَعَالَى الرسل، ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأقام الرسل حجة الله تَعَالَى عَلَى الخلق ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ)) أمده الله تَعَالَى بالهداية، وتفضل عليه بأسبابها، ووفقه لها((وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) ومنهم من لم يمده الله تَعَالَى بتلك الأسباب ولا بالتوفيق، بل تركه إِلَى نفسه مع أنه رأى بعينه آيات الله البينات، ورأى معجزات الأَنْبِيَاء وغيرها، ولكنه لما وكل إِلَى نفسه خذلته فلم يؤمن، كما هو حال قوم فرعون، فإن الله ابتلاهم بالجراد والقمل والضفادع والدم، وكلما جاءتهم آية جاءوا إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام وَقَالُوا: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ))[الأعراف:134].
      فإذا كشف الله تَعَالَى عنا، فإننا سوف نؤمن بك، فلما كشف الله عنهم ذلك، لم يلبثوا إلا أن يعودوا إِلَى ما كانوا عليه، فهَؤُلاءِ النَّاس جاءهم الشر من عند أنفسهم، حيث إن الله لم يوفقهم بل خذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، ولما وكلوا إليها هلكوا، مع أن الله أعطاهم أسباب الهداية، فرأوا الآيات البينات والدلائل الواضحات، لكنه لم يمدهم في أنفسهم بما يجعلهم مهتدين، فعدم إمدادهم بذلك ليس شراً، لأنه عدم محض، وليس أمراً وجودياً حتى ينسب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه،والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير]
      .
      فحكمته عَزَّ وَجَلَّ أنه يختص برحمته من يشاء، فأعطى أقواماً ومنع آخرين، فلما منعوا جاءهم الشر، لأن نفوسهم مقطوعة عن خير الله وفضله، فتحركت بناءً عَلَى أن ما لديها هو الحق، ومع تزيين الشيطان لها ذلك وقعت في الشر الذي لا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
  3. أسباب الخير

     المرفق    
    ثُمَّ يقول: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة، الإيجاد، والإعداد، والإمداد] فأمَّا الإيجاد: فقد تقدم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يوجد إلا ما هو خير، أي أنه ليس شراً من جميع الوجوه، ثُمَّ إن أعده أو أمده بالخير فهنا يكمل الخير، ثُمَّ يقول: [فإيجاد هذا خير] أي: إيجاد الذي هو شر هو خير بالنسبة إِلَى الله، [وكذلك إعداده وإمداده، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد] أي: بقي أنه موجود، وبقي أنه مراد، وأنه داخل في المشيئة، ولكن لم يعده الله للخير، ولم يمده بالخير.
    1. الشر في الأسباب وليس في الخلق والوقوع

      ثُمَّ يقول: [حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده] فهذا إيضاح لما تقدم، وهو أن كونه خلقه الله عَزَّ وَجَلَّ لا يعني أنه من هذه الصفة أو الجهة شراً، لكن من جهة أن صاحبه فعله يكون شراً بعد قيام الحجة عليه. ووجود أسباب الهداية بين يديه، فلو أنَّ أحداً فعل ذنباً محرماً، وهو لا يعلم، كَانَ يكون معذوراً بأي سبب من أسباب العذر.
      فإن جهة الشر أيضاً تنتفي منه من الناحية الشرعية، أي أنه لا يسمى شراً شرعاً إلا ما كَانَ متوفراً فيه الشروط التي وضعها الشرع، لاعتبار ذلك شراً أو جريمة أو منكراً أو معصية، فإذا حصلت ولم يتوفر شروطها لعارض من العوارض أو سبب من الأسباب، فإن ذلك لا يكون شراً ولا مكروهاً، مثل حال بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين كانوا يعذبون، حتى أن أحدهم يمر به الجعل، وهو الحيوان المعروف، فيقول له الكفار: قل هذا ربي.
      فَيَقُولُ: من شدة التعذيب والأذى والتعب: هذا ربي، وهذا الكلام في ذاته شر، لكنه شرعاً ليس بشر، لأن الله تَعَالَى يقول: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان)) [النحل:106] فهو لم يقل الكفر عَلَى جهة الإنكار للحق والعناد، وإنما قاله وهو مكره، إذاً مجرد الخلق والوقوع والتقدير ليس بشر، وإنما لتوفر أسباب وشروط تجعله شراً أو تجعله خيراً
      .
      ومعنى [إليه ضده] أي: إنما ينسب إِلَى الفاعل أي "الله" ضد ذلك الذي هو الخير، أو "إلى ضده" أي ينسب إِلَى ضد الله الذي هو ضد الخالق وهو الفاعل، ثُمَّ يقول: فإن قيل (هلاَّ أمده إذ أوجده) هذا الإشكال معناه أي: ما دام أن الله أوجده وخلقه، فلماذا لم يمده كما أن هناك أشياء خلقها وأمدها؟ والجواب هو قول المصنف: [ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده]، حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ لم تقتضِ أن يخلقه، ويمده، ولكن له حكمة في أنه خلق أشياء، وأمدها، وخلق أشياء ولم يمدها، وبهذا يتضح الإشكال الذي سيذكره المُصنِّف بعده.
      قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
      [فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم، فراجع قول القائل :
      إذا لم تستطع شيئاً فدعه            وجاوزه إِلَى ما تستطيع]اهـ.

      الشرح :
      هذا الإشكال تابع لما قبله، فأولاً قالوا: إذا أوجده لماذا لم يمده؟
      فيُقَالُ: إن الحكمة اقتضت إيجاده ولم تقتضِ إمداده، ثُمَّ قالوا: [فهلا أمد الموجودات كلها فهذا سؤال فاسد] معنى هذا: أنه يقول: لماذا لم يخلق الله الشياطين والبشر عَلَى نسق الملائكة؟ أو لماذا لم تكن الموجودات جميعاً ملائكة؟ فنقول: هذا سؤال فاسد، فإن الحكمة فيه الآن متحققة خلاف ما لو كانت المخلوقات عَلَى نسق واحد، إذاً فما وقع من الشر في الكون، فهو من جهة المخلوقات التي خلقها، ولم يمدها بأسباب الخير، وهنا يجب ملاحظة الفرق بين قولنا: لم يمدها بأسباب الخير وبين قولنا: إنه لم يبينها، فإن الله تَعَالَى بيَّن لأهل الشر هذا الشر، وأقام الحجة عليهم.
      لكن لم يوفقهم للعمل به، ولم يمدهم بالأسباب، عَلَى أن يكونوا من أهل الخير، فخذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، فهم يعلمون أنه شر فاختاروه، وعصوا الله عَلَى علم، وكفروا به عَلَى بينة.
    2. هل التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة ؟

      ومورد ذلك السؤال الفاسد هو ظنهم (أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة) فنرد عليهم بقول المصنف: [هذا عين الجهل، بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء] فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت وقع لأمور عدمية يتعلق بها الخلق، وقوله تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ))[الملك:3] أي: فليس عدم التفاوت المنفي عن الله أنه لم يخلق شراً وخيراً وحقاً وباطلاً، فوجود الأنواع المختلفة ليس تفاوتاً، بل هو عين الحكمة، أما لو خلق الله اثنين من نوع واحد وكلاهما عَلَى الهدى وهما في العمل الصالح، ثُمَّ جعل هذا في الجنة وهذا في النار، فهذا هو التفاوت، ولكن ما دام أن هذا نوع وهذا نوع، وهذا خير وهذا شر.
      فليس هناك تفاوت، والطاعة قد تكون خيراً من إنسان، وقد تكون شراً لآخر، فليس في هذا تفاوت من جهة أنها نوعين طاعة ومعصية، إنما يكون التفاوت إذا كَانَ النوع واحداً من جنس واحد، بشروط واحدة وحصل بينهما اختلاف، ولا يأت التفاوت لكون العباد عَلَى نوعين، نوع خير ونوع شر والتفاوت الذي هو تفاوت لا يليق أن يكون من أحد النوعين المتماثلين، فيكون في أحدهما ما يختلف عن الآخر
      ، [فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت] مجرد الإيجاد ليس فيه تفاوت، وإنما حصل الاختلاف في الإعداد والإمداد
      ، فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها، أي ما دام أنه أوجده فلماذا لم يمده؟
    3. الفرق بين الإيجاد والإمداد

      هناك فرق بين الخلق والإيجاد، وبين الإمداد وبين العمل الذي نعمله، فكل الأشياء من جهة أن الله خلقها هي خير، إذ لا يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شراً محضاً من جميع الوجوه، وجاء الشر لبعضها من عدم إمدادها بالخير إضافة إِلَى الخلق في ذاته، فهذا المخلوق يعامل عَلَى أنه فاعل يتحرك، إذا أمده الله بالتوفيق تحرك في الخير، وإن تركه ولم يمده تحرك فيما طبع عليه، وما دعته نفسه وشيطانه وهواه إليه، وإن كَانَ الحق واضحاً أمامه، فإن قيل: هلا أمد الموجودات كلها، معنى ذلك ألا يوجد في الكون شراً بإطلاق.
      الجواب: أن هذا السؤال فاسد، مورده يظن أن الحكمة أن تكون جميع المخلوقات كلها خيراً، فإذا وجد خير وشر في نظره فقد وجد تفاوت، لكن إذا كانت كل المخلوقات خير لم يحصل تفاوت والله تَعَالَى يقول: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) [الملك:3] فرد المُصنِّف عليه بقوله: الحكمة في هذا وجود هذا التفاوت للأسباب المتقدمة، فالتفاوت الذي ينافي الحكمة ليس في أنه يوجد أنواعاً مختلفة، وإنما التفاوت أن يكون في النوع الواحد، ليس في كون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أفضل الخلق، وخلق في المقابل إبليس، وهذا شر الخلق، فهذا تفاوت كبير. فهناك حكمة عظيمة أن يوجد هذا التفاوت، ((يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)) [البقرة:105] هَؤُلاءِ في الجنة، وهَؤُلاءِ في النار، وقد ظهرت بذلك الحكم العظيمة التي تقدم بعضها. ثُمَّ يقول :
      إذا لم تستطع شيئاً فدعه            وجاوزه إِلَى ما تستطيع
      أي: أن هذه الأمور يوردها بعض الذين ينكرون القدر، ويستفسرون عن هذه الإشكالات، لكن نقول لهم: الشيء الذي لا تستطيعونه، ولا تفهمونه دعوه وجاوزوه إِلَى الذي تستطيعونه وهو التسليم والإقرار
      .
      والأصل في باب القضاء والقدر هو التسليم، كما جَاءَ جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن الإيمان فقَالَ: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره}، ولا يمكن أن يعجز أهل السنة عن الأجوبة العقلية، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينزل هذا الدين إلا وهو موافق للعقول السليمة، لكن العقول المريضة والعقول السقيمة، هي التي لا تستطيع أن تفهم ما أنزل الله، فتعارضه أو تضرب بعضه ببعض، فلذلك تجد أن الجبرية أو القدرية أخذت ببعض الدين وأنكرت البعض، لكن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لا يردون أي حديث ولا أي خبر يأتي من كلام الله ومن كلام رسوله، فيؤمنون بالجميع ويسلمون للجميع.