قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له. ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً عَلَى الثاني، إذ كانوا يسلمون الأول، وينازعون في الثاني، فيبين لهم - سبحانه- أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك، فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟
كقوله تعالى: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)) [النمل:59، 60].
يقول الله تَعَالَى في آخر كل آية: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) أي: أإله مع الله فعل هذا؟
وهذا استفهام إنكار، يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ -كما ظنه بعضهم- لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى كما قال تعالى: ((أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَد)) [الأنعام:19].
وكانوا يقولون: ((أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) [ص:5].
لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلهاً ((جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً)) [النمل:61] بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا وهكذا سائر الآيات.
وكذلك قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[البقرة:21].
وكذلك قوله في سورة الأنعام: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ)) [الأنعام:46] وأمثال ذلك] اهـ.

الشرح:
يبين المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى- أن القُرْآن مملوء من تقرير وذكر توحيد الربوبية، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الخالق الرازق المُحيي المميت الضار النافع، الذي يدبر الأمر، والذي يغيث الملهوف، ويجيب المضطر، ويكشف السوء ممن دعاه إِلَى غير ذلك من خصائص الربوبية، التي منها أيضاً التفرد: بعلم الغيب المطلق، والتي منها: التفرد بحق التشريع للبشر في الدين وفي مصالح الدنيا، ومنها لوازم كثيرة لعلنا نعرض بعضها -إن شاء الله-.
والقرآن مملوء بذكر هذا التوحيد لكن لا عَلَى انفراد، ولا عَلَى أساس أنه يقره كأمر جديد، وإنما يقول للمشركين: هذا الذي أنتم مقرون به يستلزم ويستوجب منكم الإقرار بما أنتم منازعون فيه، فالمُشْرِكُونَ كانوا ينازعون في أن الله تَعَالَى هو وحده المعبود، وهو الذي يرجى ويدعى ويخاف وحده لا شريك له، وكانت هذه هي المعركة بينهم وبين الرسل.
وكان المُشْرِكُونَ وأهل الكتاب -أيضاً- يعتقدون أن غير الله هو الذي يملك أن يشرع وأن يحلل أو يحرم فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يلزمهم بأنه وحده الذي خلق الكون والبشر، فهو وحده الذي يشرع لهم، وهو وحده الذي يجب أن يطيعوه، وأما غيره فلا يجوز أن يتخذ رباً كما قال تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ))[التوبة:31] وقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه...)) إِلَى أن قَالَ: ((فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض..)) ثُمَّ قَالَ: ((لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض..)) [الشورى:10-12]
ومن كَانَ فاطر السماوات والأرض، وله مقاليد السماوات والأرض، فهو الذي يحق له وحده أن يشرع في السماوات والأرض، وأن يطاع شرعه ويتبع أمره.
والآيات كثيرة من كتاب الله التي تذكر بهذه المعاني لتلزم بما بعدها من توحيد الألوهية، ومنها هذه الآيات التي في سورة النمل: قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)) [النمل:59].
ثُمَّ ذكر خمس آيات تنتهي كل منها بقوله تعالى: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) ...قال تعالى: ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ)) [النمل:60] إِلَى أن يقول: ((أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [النمل:64].
وفي هذه السورة بعد أن ذكر في أولها تكذيب قوم فرعون: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)) [النمل:14] وبعد أن ذكر تكذيب قوم سبأ، وقصة أهل اليمن -الذين كانت ملكتهم بلقيس مع سليمان عَلَيْهِ السَّلام- ثُمَّ دخولها في دين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبعد أن ذكر تكذيب ثمود قوم صالح، ثُمَّ ذكر قوم لوط وإهلاكهم وما كَانَ لهم، ذكر بعد ذلك هذه الآيات، فالموضوع كله في بيان موضوع أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده المعبود، وهو وحده المطاع، وأنه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لا يجوز أن يشرك مع غيره في طاعته وفي عبادته وفي التقرب إليه.

فضرب لهم هذه الأمثلة وبين لهم: أنكم أنتم تقولون: إنه لم يخلق السماوات الأرض إلا الله، ولم ينزل الغيث من السماء فينبت به هذه الحدائق ذات البهجة إلا الله، فيقول -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بعد ذلك منكراً عليهم: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) أي: أإله مع الله فعل هذا، فتعبدونه مع الله، فإنه إذا كَانَ غيره قد شاركه في فعل ذلك، فيجوز أن تعبدوا غيره الذي شاركه في هذا الفعل، أما إذا كنتم تقرون بأنه وحده: هو المتفرد بخلق هذه المخلوقات، والمتفرد بخلق السماوات والأرض، والمتفرد بأنه جعل الأرض قراراً، وجعل فيها أنهاراً، وجعل فيها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، والمتفرد بأنه: هو الذي يهدي في ظلمات البر والبحر، وأنه هو الذي يكشف الضر ممن دعاه، فيجب عليكم أن تفردوه وحده بالعبادة، ولا تعبدوا غيره أبداً -سبحانه- فلا تدعوا غيره، ولا تصلوا لغيره، ولا تذبحوا لغيره، ولا تنذروا لغيره.