قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[ويُحكى عن أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فَقَالَ لهم: أخبروني -قبل أن نتكلم في هذه المسألة- عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلأ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟!
فَقَالُوا: هذا محال لا يمكن أبداً!
فَقَالَ لهم: إذا كَانَ هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟!
وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة أيضاً.
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هَؤُلاءِ النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه كَانَ مشركاً من جنس أمثاله من الْمُشْرِكِينَ]ا.هـ.

الشرح:
يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ويُحكى عن أبي حنيفة] كلمة "يحكى" أو "يُقال" معناها: أن الخبر فيه كلام، فليس موثوقاً، والحقيقة أن هذه الواقعة لا تتصور أنها تصح عن الإمام أبي حنيفة لأنه لا يمكن أن يتجرأ أحد من الملاحدة في عهد الإمام أبي حنيفة وفي أوائل القرن الثاني، ويقول أنا أنكر وجود الله، ثُمَّ يؤتى به إِلَى الكوفة إلى عالم من أكبر علمائها ويقول له: أنا أريد أن أناظرك!! لأنه حتى في هذا العصر -والْحَمْدُ لِلَّهِ- عَلَى ضعف إيماننا، وعلى ضعف علمنا، لا يتجرأ الملحد أن يأتي فضلاً عن أن يبحث عن عالم من علماء الْمُسْلِمِينَ الكبار ويقول: أنا أريد أن أناظره، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضرب عليهم الذل، وعلماء الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمُونَ جميعاً حتى العامة منهم يرفضون أصلاً أن يقابلوا مثل هذا الإِنسَان، أو يتحدثوا معه، فضلاً عن أن يفتحوا له الطريق ويقبلوا المناظرة، ويقولون وإذا لم نقنعك نذهب بك إِلَى الإمام أبي حنيفة نقول: هذا لا يمكن ولا يتخيل لكن هذا مما يذكره بعض المتكلمين ليبينوا أن الأئمة الأربعة وغيرهم قد عرفوا الأدلة والبراهين والحجج العقلية، ومثل ذلك ما ينقل عن الإمام أَحْمَد والإمام الشَّافِعِيّ أنهم قالوا: انظروا إِلَى هذه البيضة أو عجبت لهذه البيضة، التي ظاهرها هذا العظم وباطنها الماء، ثُمَّ يخرج منها ذلك الحيوان ثُمَّ يكون له العين والمنقار والرئتان، مع ذلك نقول أن هذه النقولات لو ثبتت فليس معنى ذلك أن دليل الإمام أَحْمَد عَلَى وجود الله، هو هذه البيضة، أو أن دليل الإمام أبي حنيفة عَلَى وجود الله وعلى توحيد الربوبية هو السفينة.
أو من قال من الأئمة: من أراد أن يعرف الله فلينظر إِلَى الإِنسَان كيف خلق من طين، ثُمَّ من ماء، هذه أمثلة وعبر، مثلهم مثل أي واحد يرى منظراً في ملكوت الله في السماء فَيَقُولُ: سُبْحانَ اللَّه كيف ينكر الله عَزَّ وَجَلَّ أحد؟!
انظر هذا دليل عَلَى ربوبية الله، فليس هذا هو دليله الوحيد الذي يقوم إيمانه ويعتمد عليه إنما هو كمثال من الأمثلة وكدليل من جملة الأدلة، فهذا الدليل دليل السفينة يذكر كذلك، ولا يعني هذا أننا لا نؤمن بالله إلا بناء عَلَى هذا الدليل، أو أن هذا هو حجتنا الوحيدة، أو أننا لا نملك عَلَى وجود الله إلا أمثال هذه الأدلة.

فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له في كل شيء آية تدل عَلَى أنه واحد تَبَارَكَ وَتَعَالَى ووجوده أيقين في النفوس من وجود المخلوقين أنفسهم؛ لأننا نعلم أن هَؤُلاءِ المخلوقين إنما وجدوا؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم، فوجود الخالق الموجد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيمان النفس به أكثر يقيناً من يقينها بوجود بلد اسمه أمريكا أو الهند، ومع أنه قد يكون الإِنسَان ربما لم يرها قط ومع ذلك هو مؤمن بوجودها، فالإيمان بوجود الله أعظم وأكثر يقيناً من اليقين بذلك؛ لأنه تمتلأ به الفطرة والقلب قبل أن يعرضه الدين عَلَى المباحث العقلية النظرية والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر هذا المثال. وتفسيره واضح.
ونختتم بما ذكره مؤلف منازل السائرين، وهذا الكتاب ألفه الإمام أبو إسماعيل عبد الله الهروي والذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين شرح منازل السائرين وهو المذكور هنا في قوله: "ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ويجعلونه غاية السالكين".
أما المتكلمون والنظار فقد سبق الحديث عنهم، وأما هذا الهروي صاحب منازل السائرين فإنه قد وقع -عفا الله عنه- فيما وقع فيه الصوفية من الحديث عن الفناء، حيث قالوا: إن حقيقية الفناء وحقيقة التوحيد، هو توحيد الربوبية: أن تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وأنه لا فاعل إلا الله.
وسيأتي تفصيل هذا قريباً، كما سيأتي ذكر الأبيات التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عن الهروي نفسه، وهي أبيات مردودة في موضوع التوحيد، وهذا الكلام الذي ذكره الهروي نقله صاحب حلية الأولياء عن الجنيد، وهو من كلام الصوفية حيث يعتقدون أن توحيد الربوبية هو غاية التوحيد فمن وصل عندهم إِلَى توحيد خاصة الخاصة فهو الذي يصل إِلَى اعتقاد أنه لا فاعل إلا الله، وأن كل ما في الكون إنما يتحرك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الله هو الذي حركه، أي: حقيقة الفعل هذه منسوبة إِلَى الله.
فلا ترى لغير الله فعلاً ولا حركة ولا إرادة فهذا هو غاية التوحيد عندهم، أما ما دمت تثبت فعلين، فأنت لا تزال في توحيد أقل، أو في الشرك كما قال ذلك ابن سينا حيث قَالَ: القُرْآن كله شرك، والعياذ بالله، وهذا كلام الفلاسفة، وأخذه الصوفية في الأصل أخذوا عن الفلاسفة، من اليونان والهنود، لكن فلسفة هَؤُلاءِ فلسفة روحانية، وأولئك فلسفة عقلانية.
والشاهد أن دعاوى المتكلمين والنظار، ودعاوى الصوفية وأمثالهم، أن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وهذا مردود عليهم؛
لأن التوحيد الحقيقي هو توحيد الألوهية، فهو الذي أمر النَّاس أن يتدرجوا فيه حتى يعرفوه حق معرفته، ويقوموا به حق قيامه، وكما سبق أن بينا أنه ليس كل الصوفية يقولون بوحدة الوجود، وليسوا جميعاً يقولون: إن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية، وإنما النَّاس دائماً درجات ومراتب في البدعة، أو في الضلالة، أو في الشرك، أو الكفر، فهم درجات ومراتب، والكلام عَلَى المنهج العام يختلف عن الكلام في الأعيان والأشخاص.
فالأشخاص فيهم من يأخذ بذلك المنهج كله، وفيهم من يأخذ منه ببعضه، وفيهم من ينتسب إليه بالاسم ويدعيه وهو لا يعرفه ولا يأخذ منه بشيء، فالشاهد هو هذا، وسوف يأتي -إن شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مزيد من الحديث عن الهروي وعن كتابه عند الحديث عن الأبيات التي ذكرها في نفس هذا الموضع فيما سيأتي.