موضوع توحيد الألوهية هو موضوع مهم، يبنغي لنا أن نعيد النظر والكرة إليه ونتأمله، لا سيما أنه في هذا الكتاب قد لا يعود إلينا إلا في الأخير في مواضيع متفرقة، لأن الشغل الشاغل لـابن أبي العز رحمه الله تعالى- هو توحيد الأسماء والصفات، ثُمَّ ما يتعلق بمسائل العقيدة الأخرى، كالقدر والإيمان والصحابة وكرامات الأولياء ونحو ذلك، أما موضوع توحيد الألوهية فهو عَلَى أهميته لم يكن هو الموضوع الأساس في هذه العقيدة، وإنما هو أحد هذه الموضوعات.
فجدير بنا أن نراجعه، وأن نتأمله، وأن نرجع إِلَى الأصول التي شرحته وبينته، ولا سيما كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، فإنه من أعظم الكتب التي فصلت في هذا الجانب، وبينت أن توحيد الربوبية لم تكن تنازع فيه الأمم السابقة، أي: الإيمان والإقرار والاعتراف بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الخالق الرازق، المحيي المميت، الذي يدبر الأمر وينزل الغيث، ولم تقع العداوة والخصومة فيه بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وإنما جَاءَ الرسل والأنبياء من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى النَّاس ليقولوا لهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه))[هود:61] أي: جاءوا داعين إِلَى إفراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية.

فهذا هو الذي وقعت فيه الأمم، أي وقعوا في شرك العبادة، عبادة غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ودعاء غير الله والاستغاثة بغير الله، ورجاء النفع أو الضر من عند غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، واعتقاد أن غير الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يعلم الغيب أو يملك من الأمر شيئا، هذا هو الموضوع الذي وقع به الشرك. عندما اختلف النَّاس بعد أن كانوا عشرة قرون بعد آدم -عَلَيْهِ السَّلام- عَلَى التوحيد كما قال تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: فاختلفوا ((فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين)) [البقرة:213].
فكانوا عشرة قرون عَلَى التوحيد، حتى جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحولتهم وصرفتهم من التوحيد إِلَى الشرك،
فوقع الشرك في قوم نوح، وهي أول أمة مشركة بسبب تعظيم الأولياء الذين يظن النَّاس فيهم الخير، فكان ذلك ذريعة إِلَى الشرك، وموصل إليه.
فإن هَؤُلاءِ الذين ذكرهم الله من آلهتهم ودّاً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً كانوا رجالاً صالحين من قوم نوح،
كما في الحديث الذي رواه الإمام البُخَارِيّ في صحيحه، فأراد الشيطان أن يضل قوم نوح فَقَالَ لهم: {لو صورتم هَؤُلاءِ وعملتم لهم التماثيل لتذكرتم عبادة هَؤُلاءِ لله، وتذكرتم قربهم من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فعبدتم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل ما يعبده هَؤُلاءِ} هكذا زين لهم الشيطان في أول الأمر، فوضعت التماثيل لهم ليتذكروا بها عبادة الله سبحانه فقط.
ثُمَّ نسخ العلم، وتخلف الخلوف، وهكذا عادة الأمم، تخلف خلوف وأجيال فتنسى الغرض الأساسي الذي من أجله أنشئت البدعة أو نصب التمثال، فيتخذ التمثال أو الصورة إلهاً معبوداً من دون الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فحدث ذلك وعبدت هذه الآلهة من دون الله، فهذا هو أحد أسباب وقوع الشرك في بني آدم،
وهو ما ذكره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من العدل أو من التسوية التي قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) [الأنعام:1] وقال في آية أخرى حكاية عن أهل النار: قالوا: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:97، 98].
فهم عدلوا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ غيره، وسووا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غيره في التعظيم والمحبة والتقديس، لا في اعتقاد أن غير الله هو الذي يخلق أو يرزق أو يضر أو ينفع أو يحيي أو يميت أو يدبر الأمر أو ينزل الغيث، بل هو من شرك المحبة والتعظيم والتقديس، كما قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165] وهو من أخطر وأعظم أبواب الشرك.

ومن لوازمه: أن هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ وإن كانوا يدعون هَؤُلاءِ الصالحين أو الأَنْبِيَاء أو المقربين وقت الرخاء، فإنهم كانوا إذا ركبوا في الفلك، وجاءتهم الريح من كل مكان وأحاط بهم الموج دعوا الله مخلصين له، ويتضرعون طالبين منه الغوث، وهذا بخلاف شرك المتأخرين، فإنهم يدعون غير الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الرخاء والشدة.
وهذا من أعظم البلاء الذي وقع في هذه الأمة، نسأل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن يرفعه عنها فالذي وقع أنهم يعتقدون أن لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تصرفاً في الربوبية، فالمُشْرِكُونَ الأولون كانوا يعتقدون أن آلهتهم إنما هي شفعاء، تقربهم إِلَى الله زلفى، ولكن الْمُشْرِكِينَ المتأخرين يعتقدون في آلهتهم ومعبوداتهم أنها تخلق وترزق وتحيي وتميت، وهذا ما لم يقع فيه أصحاب الشرك الأول، وهو دليل عَلَى انحطاطهم، فإن البشرية كلما تقدم بها الزمن وكلما بعدت عن رسالات الأَنْبِيَاء ازدادت انحطاطاً وشركاً عياذاً بالله.

وأعظم المصائب أن يقع هذا الشرك ممن ينتمي إِلَى أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيعتقد أن الأقطاب أو النجباء أو الأبدال أو الأولياء يملكون النفع والضر والخلق والرزق والتصرف في الكائنات، كما يزعمون أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قد وكل أمر تصرف العالم إِلَى هَؤُلاءِ الأولياء، فهم يتصرفون فيه كما يشاءون، ويقولون ذلك تلبيساً عَلَى الناس، حتى إذا قال أحدهم: الله هو المتصرف في كل شيء قالوا: نعم. إن الله هو المتصرف في كل شيء.
ولكنه تَعَالَى يعطي من يشاء فيتصرف في ملكه. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إن أكرم أحداً من العباد أو من الأولياء أو الصالحين فلن يعطيه شيئاً من خصائص الألوهية، لأن هذه ألوهيته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهي التي من أجلها خلق السماوات والأرض، فالملائكة المقربون والأنبياء والمرسلون، ثُمَّ بعد ذلك عباد الله جميعاً والخلق جميعاً يعبدون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويتوجهون إليه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وهذا هو شأنهم، وهذا هو ديدنهم جميعاً، فلا يمكن ولا يصح بحال من الأحوال أن يعطي الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أحداً منهم شيئاً من خصائص الألوهية.

بل هذا تكذيب لما هو ثابت بالقرآن والسنة وعلى ألسنة جميع الأَنْبِيَاء من أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو وحده الإله.
فإن قالوا: إن الله هو الذي يعطي هَؤُلاءِ الأولياء التصرف في الأكوان، والقدرة عَلَى الخلق والرزق والأحياء والإماتة... فإن هذا من الباطل الذي ترده بديهة المسلم وفطرته، لعلمه اليقيني أن الله تَعَالَى إنما بعث الأَنْبِيَاء من قبل وبعث آخرهم محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليفرده النَّاس بالإلهية، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] فكيف يجعل -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غيره إلهاً وطاغوتاً يعبد من دونه؟!

ومن أسباب وقوع الشرك: تعظيم الكواكب أو القياس عَلَى الكواكب، كما قلنا: إن الحرانيين الصابئين -قوم إبراهيم- والأمم قبلهم من الكنعانيين والبابليين والآشوريين وكثير من الأمم البائدة، كانوا يعتقدون أن للأفلاك والكواكب تأثيرات وتدبيرات في العوالم السفلية، ومن أجل ذلك بنوا الهياكل، ثُمَّ صوروا عَلَى مثال تلك الكواكب الأصنام. ونحتوها، وأخذوا يعبدون هذه الأصنام من دون الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بسبب هذا الاعتقاد.
وذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الأحاديث الصحيحة في النهي عن عبادة القبور، وعن اتخاذ القبور مساجد، وهي أحاديث كثيرة وصحيحة.