وهذا الشرك وجد عند الصابئين، كما كَانَ عند قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا يعبدون الأصنام بـبلاد الشام تجاه حران وما حولها، فكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وما تزال هذه الهياكل أو بعضاً منها باقية إِلَى اليوم، حتى أن علماء الحفريات والآثار لما بحثوا وجدوا أن أُولَئِكَ القوم كانوا يبنون المراصد والهياكل.
فهَؤُلاءِ القوم عظموا الكواكب، كما عظم أصحاب القبور قبورهم، والأولياء أولياءهم،
ويبدو -والله أعلم- أن سبب تعظيمهم للكواكب أنهم رأوا الخلق والرزق والمطر والخير والبركة تنزل من السماء، ورأوا أن هذه أعظم شيء في السماء -كما يرون- فاتجهوا إِلَى تعظيم هذه المخلوقات، ولا سيما وقد أوحى إليهم الشيطان أنه إذا ظهر الكوكب الفلاني في المكان الفلاني يكون الدمار، وتكون الزلازل، ويكون الخسف، وإذا ظهر الكوكب الفلاني واقترب من الكوكب الفلاني يكون المطر، ويكون الخير، والرحمة والبركة، هذا مما أوحى الشيطان إِلَى الكهان والمنجمين منهم، فنظروا إِلَى هذه الكواكب نظرة التعظيم، واعتقدوا أن لهذه الكواكب تأثيراً في العوالم السفلية، وأن ما يقع في الأرض فإنه يكون بسبب تلك الكواكب، ولا يزال هذا فاشياً في الْمُشْرِكِينَ حتى اليوم، بل وبعض من يدعي الانتساب إِلَى هذه الملة يسألك عن نجمك! أو عن برجك! برج السرطان!! يقول لك: حظك طيب، وزواجك موفق وكذا وكذا!! أو يقول لك: لا، أنت من برج العقرب، وخطيبتك من برج السرطان، فلا تتزوجها وابحث عن واحدة من برج الحمل مثلاً!
هذه الخرافات ما تزال حتى في هذه الأمة -نسأل الله عَزَّ وَجَلَّ- أن يرفع عنها هذا البلاء والضلال ويردها إليه تائبة موحدة عابدة - فوقع هذا الشرك في الصابئين، ولذا كَانَ الآشوريون والبابليون وأمثالهم يبنون الهياكل العظيمة ويرصدون الكواكب، لا للعلم الجغرافي الذي هو معروف اليوم، وإنما لغرض التقرب إليها، ومعرفة أحوالها، والاستدلال بها عَلَى أحوال العالم الأرضي، وكان لها شياطينها؛ فكانت الشياطين تنزل وتوحي إِلَى أوليائها الأخبار عن أمور معينة، أو أحداث أو أحوال، فيأتي كهنة كل كوكب ويخبرون النَّاس بما أخبرهم، وأوحى به إليهم هَؤُلاءِ المردة والشياطين، فيظن النَّاس أن الإله هو الذي أوحى إليهم، وأنه الذي يملك هذه الحقائق، أو الذي يعلم الغيب، وهو الذي يدبر الكون.
وكانت كل منطقة من المناطق تنافس المنطقة الأخرى، وتحاربها وتتقاتل معها، عَلَى أن إله هَؤُلاءِ أفضل من هَؤُلاءِ.
هكذا كَانَ البشر يتخبطون في الضلالات والجهل، ثُمَّ وضعت أصنام في الأرض كما يقولون بما يتناسب مع طباع الكواكب، فبعضهم يعبد الكوكب في السماء، وبعضهم يعبد الأصنام في الأرض، وينحت هيكلاً من صخر؛ ويقول: هذا مناسب لطباع المشتري أو زحل، فيعبد النَّاس هذا الصنم بناء عَلَى تعظيم الكوكب الذي يتناسب مع طباعهم، ويأتي أولياءهم من الجن والشياطين، فتدخل في جوف هذه الأصنام والأحجار، فتكلمهم وتخاطبهم باسم الصنم المعبود، وهذا ما كَانَ حاصلاً إِلَى زمن بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام، وتكلمهم وتحكم بينهم منها، فيظن النَّاس أن هذه الأرباب الآلهة هي التي تتكلم، وهكذا أغوى الشيطان بني آدم.