المادة كاملة    
تحدث هذا الدرس عن الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية، مع بيان شبهات القدرية وضلالهم في المشيئة، موضحاً الفرق بين المشيئة والمحبة، ومؤيداً ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض العلماء، ثم بيَّن أنه لا يوجد سبب مستقل بالتأثير إلا أن يكون المؤثر هو الله تعالى، ووضح ذلك بأمثلة تدل عليه، ثم تطرق إلى أن استعاذة العبد داخلة تحت مشيئة الله، وأن معرفة الله وعبوديته هي كمال السعادة، ثم أورد شبهات القدرية والمعترضين على الله في الإرادة، مبيناً ضلال هذه الفرقة، وقد خُتم هذا الموضع ببيان الحكمة من وجود الشر.
  1. الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتابُ والسنةُ والفطرة ُالصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب، فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا، فَقَالَ تعالى:((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ))[البقرة:205]، ((ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ))[الزمر:7] وقال تَعَالَى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: ((كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً))[الإسراء:38].
    وفي الصحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال}.
    وفي المسند: {إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته} وكان من دعائه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك}.
    فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة:
    فالأول: للصفة.
    والثاني: أثرها المرتب عليها.
    ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره، ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.
    فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته ومعرفة عبوديته] اهـ.

    الشرح:
    منشأ الضلال عند الجبرية والقدرية هو أن كلا الطائفتين قد سوّت بين المشيئة وبين المحبة والرضا؛ لأن الإرادة كما ذكرنا تأتي بالمعنيين، لكنهم سووا بين المشيئة وبين المحبة والرضا.
    1. شبهات في المشيئة

      ذكر المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن منشأ الضلال في التسوية بين المشيئة وبين المحبة والرضا، فسوّى بينهما الجبرية والقدرية.
      ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، وكل ما يقع فهو محبوب مرضي عند الله تَعَالَى لأنه واقع بمشيئته، والمشيئة بمعنى المحبة، وهَؤُلاءِ لهم جواب بعيد، لكن التركيز هنا عَلَى القدرية النفاة؛ لأن لهم شبهة، وهي قولهم: بما أن المعاصي ليست محبوبة لله ولا مرضية له، إذاً .. فهي ليست بقدر الله، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
      ثُمَّ شرع المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في الرد عَلَى هذه الطائفة، فذكر التفريق بين المشيئة والمحبة للرد عَلَى كلا الطائفتين، ولكنه استطرد في الرد عَلَى القدرية النفاة، لأن الفرقة التي يُعْلم فساد قولها بالفطرة والعقل، وبالبديهة، وبالعلم الضروري، لا تحتاج إِلَى تفصيل في بيان بطلان مذهبها، لكن الفرقة التي يكون لانحرافها أو لباطلها شبهة قد تلتبس عَلَى بعض العقول فهذه يفصَّل ويطول في كشف شبهتها وبيان باطلها لئلا تعلق تلك الشبهة.
    2. الفرق بين المشيئة والمحبة

      قال المصنف: [وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا، فقد قال تعالى: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ))[البقرة:205]] ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر))[الزمر:7].
      إذاً الفساد غير محبوب لله كما نص عَلَى ذلك صريح القرآن، أنه لا يحب الفساد ولا يرضاه، والفساد واقع في العالم، ولكن لا يقع شيء بغير مشيئة الله، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه يشاء الفساد ولكن لا يحبه، كما قال تعالى: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر))[الزمر:7] وكذلك الكفر واقع في العالم.
      إذاً.. هو واقع بمشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ، لكن لا يرضاه الله تعالى، فاجتمع فيه أنه بمشيئته، ومع ذلك فهو لا يرضاه، إذاً هو شاءه وقدره كوناً، ولكن نهى عنه وحذَّر منه شرعاً
      .
      ثُمَّ يقول: [وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: ((كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)) [الإسراء:38].
      فيلاحظ هذه الحكمة العظيمة التي عجزت الأمم، وعجز حكماء العالم وعقلاؤه أن يأتوا بأحكم منها، وكيف يأتون بأحكم منها وكلها مبنية عَلَى قاعدة التوحيد، فأعظم ما نهى الله تَعَالَى عنه وجعله من الحكمة في هذه السورة وفي غيرها هو الشرك.
      فمن وحّد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وترك الشرك فهذا عَلَى قاعدة الحكمة، فإذا أتبع ذلك بالإحسان إِلَى الوالدين وبترك الفساد، وترك قتل الأنفس، وترك الكبر، وترك أكل أموال اليتامى، وكل ما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحذَّر منه، فإنه من أهل الحكمة، والمتمسكين بها، وهو حكيم، وإن كَانَ أمياً عامياً، لا يفقه شيئاً مما يسميه الحكماء حكمةً أو فلسفةً أو علماً أو أخلاقاً، أو ما أشبه ذلك، ولهذا عقّب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذا فقَالَ: ((كُلُّ ذَلِكَ)) أي: كل ما تقدم النهي عنه في هذه الآيات ((كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)) [الإسراء:38].
      فالله عَزَّ وَجَلَّ نهى عنه وهو يكرهه وإن كَانَ الله يشاء وقوعه
      .
      ثُمَّ يقول: [وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال}].
      هذا الحديث في الصحيحين، فقوله: {إن الله كره لكم ثلاثاً} أي: ثلاث خصال كرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والمؤمن إذا علم أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كره شيئاً فإن عليه أن يجتنبه، لأن هذا الأمر هو مما لم يشرعه الله بل نهى عنه وشرع ضده.
      وقوله: {كره لكم ثلاثاً: قيل وقال}، ولكن واقع أكثر الْمُسْلِمِينَ اليوم أنهم مشتغلون بالقيل والقال من حق أو باطل، ويفسر ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وهل يكب النَّاس في النَّار عَلَى مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم}، فهذا هو القيل والقال.
      {وكثرة السؤال} إن كَانَ السؤال المراد به السؤال في الدين أو في العلم، فما أكثره، وإن كَانَ النهي عن كثرة السؤال في طلب الناس، في أمرٍ من أمور الدنيا، فهذا أيضاً واقع.
      {وإضاعة المال} وهذا أيضاً واقع، فما أكثر المبذرين، وما أكثر المضيعين للأموال فيما لا ينفعهم، فعلى أي حال من الأحوال فهذه التي كرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى واقعة بين الناس، ومع ذلك فالله تَعَالَى يكرهها، وقد شاءها وقدرها كوناً، ولكنه يكرهها ولا يرضاها شرعاً،
      ثُمَّ ذكر الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد في المسند، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته}.
      فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع الرخص، وشرع ترك المعاصي، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحب أن تؤتى رخصه ويكره أن تؤتى معاصيه، فالمحبة والكره هما بالمعنى الشرعي، أي: شرع لنا أن نأخذ بالرخصة وشرع لنا أن نترك المعاصي، ومعلوم أنه يكره المعاصي.
  2. الاستعاذة بالله

     المرفق    
    انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى دعاء النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهور المعروف وهو قوله: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك}.
    وقد علق رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هذا الحديث بتعليق قيم، وهذه العبارات التي ذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هنا هي من نفائس الكلام، وقد ذكر بعضها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، وكذلك ابن القيم، وهذا مضمون ما ذكراه.
    والحديث جدير بنا أن نتأمله وأن نتدبر معناه، كما قال رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في الأخير: (فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته، ومعرفة عبوديته).
    والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتي جوامع الكلم، وهي من خصائصه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ميزاته العظيمة وشمائله الكبرى، فهو يعبر عن المعاني العظيمة المتضمنة للحكم والمصالح الكبيرة ولدرء المفاسد والمضار الكثيرة، بلفظٍ موجزٍ قليل، ومعجزته في ذلك من جهة الفصاحة والبلاغة، ومن حيث وقعه عَلَى السمع، ومن حيث معانيه، كل ذلك يجتمع في أوجز وأبلغ لفظ، وكثير من الأحاديث التي قالها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من باب جوامع الكلم التي تحوي العلوم الكثيرة، وهذا الحديث منها.
    والذي يتأمله يجد أن فيه غاية التوحيد، فهو يتضمن الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفيه بيان أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منه المهرب وإليه الملجأ، فالخوف يكون من الله، والالتجاء يكون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك}
    .
    يقول رَحِمَهُ اللهُ: [فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة] لكن الأمر كما قَالَ: [الأول: الصفة، والثاني: أثرها المرتب عليها] فأثر الرضا: المعافاة، وأثر السخط: العقوبة [فاستعاذ بالصفة من الصفة، ومن الفعل المرتب عَلَى هذه من الفعل المرتب عَلَى تلك، ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره] وذلك في قوله: {وأعوذ بك منك} قَالَ: [فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك].
    1. وأن إلى ربك المنتهى

      ذكرابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتاب الفوائد تعليقاً عزيزاً لطيفاً عَلَى قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) [النجم:42] يقول في معنى كلامه: لا يوجد سبب من الأسباب مستقل بالتأثير، سواءً كَانَ السبب خيراً أو شراً، إلا أن يكون المؤثر والفاعل هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل سبب يستلزم وجود سبب آخر إِلَى أن تنتهي أسباب الخير وأسباب الشر، وكل ما يقع في الدنيا من خير أو شر، فالسبب وقوعه هو سبب آخر، والسبب الآخر سبب لآخر.. وهكذا تنتهي كلها إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ولهذا إذا أردت أن تختصر الطريق كحال المؤمنين الموحدين المنيبين، فإنهم إن وقع لهم خير أو شر أيقنوا وعلموا أنه من الله، وأنه بقدر منه، أما الذين لا يؤمنون بالله ولا بالقدر فإنهم إذا وقع لهم هذا الشيء، قالوا: إنه بسبب آخر.
      فمثال ذلك: الغبار الموجود.
      قالوا: السبب في هذا الغبار الانخفاض الجوي.
      فإذا قيل: ما سبب الانخفاض الجوي؟
      قالوا: بداية فصل ونهاية فصل.
      فإذا قيل: فما السبب في هذا وذاك؟
      قالوا: دوران الأرض حول الشمس، أو ما أشبه ذلك.
      فإذا قيل: ولماذا تدور، ولماذا..؟ أسباب ثُمَّ أسباب.. وهكذا إِلَى ما لا نهاية، أما المؤمن فيختصر ذلك كله.
      ويقول: هذا من الله، دون أن ينكر تأثير الأسباب التي تنتهي إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي جعلها تؤثر وخلق فيها التأثير، ولهذا نجد أن ما يحسبه النَّاس أسباباً نهائية هو في الحقيقة من العلوم الدنيوية، وأن غاية ما يستطيع العلم البشري أن يفسره من الأحداث الكونية هو أن يبين كيف؟ لكن لماذا؟ هذا الذي تعجز عنه العقول وإن ادعوا، كيف يقع كذا فيمكن أن يعرف البشر كيف يقع؟ لكن لماذا يقع؟ هذا هو الذي يعجز النَّاس عن معرفته إلا المؤمنين.
      مثال ذلك: السحاب يتبخر من البحر، ثُمَّ يرتفع في طبقات الجو العليا، ثُمَّ يبرد، ثُمَّ يهطل عَلَى منطقة كذا من المناطق، فيمكن معرفة كيف وقع وذلك، بأن تتابع هذه العملية متابعة محسوسة حتى تنتهي، لكن لماذا وقع؟
      ولماذا في هذا اليوم بالذات؟
      ولماذا من هذا البحر بالذات؟
      ولماذا خرجت هذه السحابة في هذا الوقت وبهذه السرعة؟
      ولماذا سارت ألف ميل أو عشرة؟
      ولماذا أمطرت في هذا البلد بالذات؟
      ولماذا أمطرت في جزء منه دون جزء؟
      هذا الكلام لا يستطيع العلم البشري الإجابة عليه.
      إذاً.. نعرف بذلك (أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)، وأن نهاية الأمور كلها هي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه خالق الأسباب والمسببات.
      إذاً.. كل شيء راجع إليه وحده لا إِلَى غيره أبداً.
    2. استعاذة العبد داخلة تحت المشيئة

      إذا استعاذ المستعيذ المؤمن المنيب وقَالَ: (وأعوذ بك منك) فهو كما قال رحمه الله تعالى: (فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك) ولكن ما علاقة هذا بالمشيئة؟
      الجواب: أن ما أعوذ منه وأخاف منه وأخشاه فهو واقعٌ بمشيئة الله، وكذلك ما أعوذ به وهو رضا الله ومعافاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى فهو أيضاً راجعٌ إِلَى مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ولهذا قَالَ: (بك منك) فمعناه: إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فهو كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمنعي وإعاذتي مما أكره هو بمشيئتك، كما أن هذا الواقع لو وقع فإنه بمشيئتك، أي: أن المحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك.
      إذاً: هذا كله تسليم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ثُمَّ يقول: (فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك) أي: أعوذ بحول الله وقوته مما يكون بحول الله وبقوته
      .
      لكن لما قَالَ: (ورحمتك) قابلها (بالعدل والحكمة) لأن الرحمة يقابلها العدل والحكمة، وهذه من الدقة في كلامه رَحِمَهُ اللَّهُ، فالعذاب لا يقع برحمة الله، ولكنه يقع بعدل الله وبحكمته وبقوته وبحوله وبقدرته، ولهذا قَالَ: (عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك).
      ولهذا من الأخطاء في الدعاء أن نقول: (اللهم أهلك الكفار والمنافقين والشيوعيين، برحمتك يا أرحم الراحمين) فلا يناسب أن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفة الرحمة أن يهلك الكفار، لكن نقول: (اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا، واشف مرضانا برحمتك يا أرحم الراحمين)

      ثُمَّ يقول: (فلا أستعيذ بغيرك من غيرك) المستعاذ منه واقع بمشيئتك، والمستعاذ به هو صفاتك، إذاً.. لا أستعيذ بغيرك من غيرك (ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك) عندما أستعيذ بك يا ربِ من الشر، فأنا لا أستعيذ بك من شيء صادر من غير مشيئتك وإرادتك، بل هو مما شئته وقضيته وقدرته، فالمرجع كله إليك وإليك المنتهى.
    3. الراسخون في العلم أعرف الناس بالله

      كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته] وصدق رَحِمَهُ اللَّهُ، فإن هذا يتضمن أن العبد لا حول له ولا قوة، إن وقع به خير أو وقع به شر فهو مسلِّم في ذلك كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولاً أو طولاً أو قوة ليست لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليست تابعة لمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو شعر النَّاس أو علموا حقيقة حالهم، وأنهم فقراء إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل لحظة، وأنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت عبوديتهم لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذته أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا
      .
      ولكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وحده، ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضاً، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب، فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك).
    4. السعادة في معرفة الله وعبوديته

      يذكر المُصنِّف هنا أن أصل معرفة العبودية أن تكون مبنية عَلَى الافتقار إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن القلوب لا تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عَزَّ وَجَلَّ، فإن من لم يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ حق المعرفة، ويعبده حق العبادة، كَانَ فيه من الشقاء والألم والنكد بقدر جهله بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا نجد عصاة المؤمنين أحسن حالاً من الكفار، والكفار شر من ذلك.
      فكلما نقصت من قلب العبد المعرفة نقصت السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم أكثرهم إيماناً بالله، ومعرفةً به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو جاءتهم مصائب الدنيا جميعاً ما أقلقتهم لحظةً واحدة.
      والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن له في ذلك الأجر مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعاً وجالباً للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.
      وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر بنعم الله جميعاً من أجل بلية اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئاً قليلاً من نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان أن يستشعر أنه فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحقق العبودية الكاملة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
      .
  3. شبهة: كيف يقدر الله شيئاً لا يحبه؟

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق النَّاس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مرادٌ لنفسه، ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
    والمراد لغيره: قد لا يكون مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إِلَى ذاته، وإن كَانَ وسيلة إِلَى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إِلَى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إِلَى مراده ومحبوبه.
    بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إِلَى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان، والأعمال، والاعتقادات، والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إِلَى محابَّ كثيرةٍ للرب تَعَالَى ترتبت عَلَى خلقه، ووجودها أحبُّ إليه من عدمها [إهـ.

    الشرح:
    هذا الكلام قد يكون فيه شيء من الغموض، لكن المراد منه واضح، والإشكال الذي أثارته القدرية ويثيره المعترضون عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو قولهم: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه، فما دام أنه لا يحبه ولا يرضاه، فلماذا يشاؤه ويقدِّره؟
    وذكر المُصنِّفُ مثالاً عَلَى ذلك: إبليس، فما يعمل من الشر في العالم لا يحبه الله ولا يرضاه فلماذا خلقه؟
    وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهيته؟
    وسبق أن ذكرنا من الأدلة التي تبين أنه يجتمع في الشيء الواحد مشيئة الله من جهة، وبغضه وكراهيته ومحبته من جهة أخرى.
    كيف يجتمع بغض الله لشيء ومشيئته له نفسه؟ يقول: [قيل: هذا السؤال هو الذي افترق النَّاس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم].
    وهذا السؤال هو منشأ الضلال عند القدرية، وقد دفعهم إِلَى أن يسووا بين المشيئة وبين المحبة
    .
    1. الجواب عن شبهة القدرية

      لقد بين المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجواب عَلَى مثل هذه الشبهات فقال: [فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير] فمثلاً: خَلْقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا من أفعال الله التي فعلها وشاءها، وهو محبوب ومطلوب لذاته؛ لما فيه من الخير، فرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير مطلوب لذاته، ومحبوب لذاته [فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد]، أي: مرادٌ لذات كونه غايةً، فهو مطلوب ومحبوبٌ في ذاته.
      والنوع الآخر: [والمراد لغيره: قد لا يكون مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إِلَى ذاته، وإن كَانَ وسيلةً إِلَى مقصوده ومراده].
      مثال ذلك: خلق إبليس، ليس مقصوداً ولا مصلحة فيه له بالنظر إِلَى ذاته، "أي: ذات إبليس".
      وحكمة الله اقتضت كما بينا وقرأنا الآيات السابقة، أن يكون النَّاس منهم كافر ومنهم مؤمن، كما قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً)) [هود:118] فاقتضت حكمته أن يكون النَّاس أمتين، إذاً.. هذا أمرٌ سبقت به الحكمة، وتمت كلمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بأن يكون للجنة أهل وللنار أهل.
      فهذا الأمر انتهى وفُرغ منه، فإبليس هذا الشر الذي لا يراد ولا يحب لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هو من جهة أنه يتحقق به مراد الله الذي تمت به كلمته، وهو أن يكون للنار ملؤها، وللجنة ملؤها، فإبليس من هذه الجهة مرادٌ لغيره، فيريد الله من إبليس أن يجعل من النَّاس كما اقتضت حكمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيهم من يعصيه فيدخل الجنة، وفيهم من يطيعه فيدخل النار، فوجوده ينتج عنه مصالح وحكم عظيمة، وإن كَانَ هو بذاته شراً محضاً، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مرادٌ له من حيث قضائه وإيصاله إِلَى مراده
      .
      ثُمَّ يقول: [فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته] فبغضه من جهة ذاته وشره، وإرادته من جهة ما ينتج عنه من المصلحة والحكمة، [ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما]، فهذا متعلق بالمصلحة والحكمة، وهذا متعلق بالشر بذاته، وذكر ثلاثة أمثلة واقعية من واقع النَّاس المشاهد المحسوس:
      منها: أن الإِنسَان نفسه يبغض الشيء من جهة، ويحبه من جهةٍ أخرى ليقر الإِنسَان ويعترف بذلك.
      فمثلاً: الدواء في ذاته كريه؛ لكن إذا علم المريض أن فيه شفاءه، مع أن هذا الدواء مر، ومنتن الرائحة، لا يذوقه الإِنسَان ولا يطيقه ولا يريده أبداً، ولو عرضته عَلَى إنسان سليم بأغلى الأثمان لما ذاقه ولا طعمه، ولكن هذا مجرب أنه دواء للعلة التي يشكو منها مريض مقعد مجهد، يعاني من العلل والأمراض والسقم، فيتحمل مرارة الدواء فيستعمله، لكنَّ محبته للدواء ليست لذاتها، لكن لكونها وسيلة إِلَى مرادٍ محبوب وهو الشفاء.
      قَالَ: [وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده]، وهذا أيضاً مثال عقلي واضح، أن الإِنسَان إذا تآكل عضو من أعضائه بعلة، وهذه العلة ستسري إِلَى سائر البدن ولا خيار إلا أن يقطع هذا العضو، أو أن تسري العلة إِلَى جميع البدن فيموت، فما الذي سيختاره الإِنسَان؟
      الجواب: سيختار القطع، فالقطع ليس محبوباً مرغوباً لذاته، فلا يرضى أحد أن يقطع منه عضواً، لكن لأنه وسيلة إِلَى منفعة وإلى أمر محبوب ومراد وهو الشفاء أو السلامة من تسرب وسريان الداء إِلَى بقية الأعضاء، قَالَ: [وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إِلَى مراده ومحبوبه].
      مثلاً: الحج إِلَى بيت الله الحرام يركب الإِنسَان في بعض المناطق الباخرة شهوراً، أو يركب السيارة أياماً وليالٍ، فهذا لا يريد المشقة لذاتها لكن لكونها توصل إِلَى المراد، وإلى المحبوب، أي: إِلَى بيت الله العتيق يستلذها ويستعذبها، فهي من جهة ذاتها مشقة، ولكن بالنظر إِلَى غايتها ونتيجتها كأنها راحة فيتحملها.
      فهذه الأمثلة الثلاثة تدل عَلَى أنه لا تنافي بين أن يكون الشيء محبوباً، أو مكروهاً في ذاته، ومع ذلك هو محبوب أو مراد لغيره ليوصله إِلَى النتائج المرجوة منه
      .
    2. العاقل يعمل بغالب الظن

      يقول رَحِمَهُ اللَّهُ: [بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته]، أي: لو قال الطبيب لأحد المرضى: بتر العضو المتآكل نسبة الشفاء فيه (70%) أو (80%) فإنه سيختار القطع، مع أنه لم يجزم، فلم يقل له: (100%)، لكن (70%) أحياناً أو(50%)، فسيوافق عَلَى القطع، لاحتمال أن الخمسين الأخرى تغلب.
      إذاً العاقل يعمل بغالب الظن، وربما بالظن في تحمل مالا يريد وما لا يحب فيحبه، لما يوصل إليه من محبوب متيقن أو متحقق، يوافق عليه ويقره؛ لأنه يوصل وينتج ما هو محبوب للعبد، هذا في حال العبد، فالعبد المخلوق لو قيل له في أمر من الأمور: هذا نافع (100%) فإنه لا يجزم بذلك؛ لأنه مخلوق، لكن بالنسبة إِلَى الخالق سبحانه فإنه بالنسبة إِلَى ما يعلمه الله مما قد نعلمه هو كله خير وكله مصلحة، ومتحقق فيه مراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لا تخفى عليه خافية، وهو يعلم السر وأخفى، ويعلم كل شيء وما تكون عاقبته.
      فالنظر إِلَى النتيجة متحقق فيه مرادٌ ومحبوب لله، وبالنظر إِلَى الذات فيه ذلك الشر، فإذا كَانَ العبد في أمور دنياه يعمل بالغالب من الظن، وربما بمجرد الظن ويجتمع له في أمر من الأمور أنه مكروه وأنه محبوب، فالله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي قدَّر كل شيء يجتمع منه سبحانه في أمر من الأمور أنه يكرهه وأنه يريده ويشاؤه
      .
    3. كراهية الله لذات الشيء لا ينافي إرادته لأجل غيره

      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فهو سبحانه يكره الشيء ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره] فيكره الشيء أي: لذاته، ولا ينافى ذلك إرادته لأجل غيره لا لأجل ذاته [وكونه سبباً إِلَى أمر هو أحب إليه من فوته] أي: من عدمه [من ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادةٌ لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات].
      أي: المادة التي تمد الفساد، ففساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات من إبليس، أعاذنا الله وإياكم من شره، [وهو سبب لشقاوة كثير من العباد] فكم أضل من النَّاس نسأل الله العافية، قال تعالى: ((وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ))[الصافات:71] وقال أيضاً: ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)) [يوسف:103].
      فكم أضل إبليس! فلم ينجُ من شره وكيده ومكره إلا القليل.
      يقول: [وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه] فلو استطاع إبليس أن يصرف الإِنسَان عن الدخول إِلَى المسجد، وقد توضأ وأتى يريد الطاعة، ويصرفه عنه إِلَى مكان الزنا أو الخمر لفعل ذلك ولم يتردد، ولهذا لا يترك العبد لحظةً واحدة، حتى إن غلبه العبد وصلى فإنه يأتيه بالوساوس، ويأتيه بالخطرات وبالمشاكل، ولا يدع العبد لحظةً واحدة، فهذا حاله، عدوٌ لله مترصد لأن يُعصى الله، ولا يريد أن يطاع أبداً.
      فهو إذاً الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، [ومع هذا] الشر المستطير، [فهو] إبليس [وسيلة إِلَى محابَّ كثيرةٍ للرب تَعَالَى] وإلى أمور محبوبة كثيرة، هي مراده لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى [ترتبت عَلَى خلقه، ووجودها أحبّ إليه من عدمها]
      ثُمَّ ذكر المُصنِّف رحمه الله تعالى بعضاً من الحكم في ذلك.
  4. الحِكَم من وجود الشر

     المرفق    
    قال المصنف رَحِمَهُ اللهُ:
    [منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تَعَالَى عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته] إهـ.
    الشرح:
    إن هَؤُلاءِ القدرية الذين عطلوا حكمة الله، أو سألوا هذا السؤال: كيف يشاؤه وهو يكرهه؟ غافلون عن حكمة الله في خلق إبليس مثلاً، أو وجود الشر النافذ عنه.
    1. إظهار قدرة الله على خلق المتضادات

      من الحكم العظيمة في وجود الشر: أن يظهر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للعباد قدرته عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فالكون -كما ترون الآن- فيه متضادات، خير وشر، وصلاح وفساد، وتوحيد وشرك، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية، وأولياء الله وأعداء الله، ومتقون وفجار.. وهكذا.
    2. جبريل مثال للخير وإبليس مثال للشر

      يقول المصنف رحمه الله: [فخلق الله هذه الذات] أي: ذات إبليس [التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير] فجبريل عَلَيْهِ السَّلام مادة كل خير من جهة أنه رَسُول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الملكي إِلَى رسله من البشر، ولهذا كَانَ التمثيل بجبريل عَلَيْهِ السَّلام، ولم يكن التمثيل بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جبريل هو الذي بلغ الوحي إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك بلغه إِلَى موسى وإلى عيسى وإلى من قبله.
      حتى أن ورقة بن نوفل لما جاءته خديجة وأخبرته بشأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {هذا هو الناموس الذي كَانَ ينزل عَلَى موسى} ولهذا قال اليهود: إن عدوهم هو جبريل، قالوا: يا مُحَمَّد! من الذي يتنَزل عليك بالوحي؟
      قال: جبريل عَلَيْهِ السَّلام.
      قالوا: ذاك عدونا من الملائكة -عياذاً بالله- ولهذا قال الله تَعَالَى فيهم في سورة البقرة:
      ((مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)) [البقرة:98].
      فهذا يدل عَلَى أن اليهود من جنس إبليس عياذاً بالله، من نفس المادة -مادة الشر- بل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى سمى اليهود شياطين، كما سمى الشيطان شيطاناً، قال تعالى: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ))[البقرة:14] أي: إذا خلا المنافقون إِلَى اليهود قالوا: إنا معكم، فهم شياطينهم؛ لأن الشيطان يمد الإِنسَان بالشهوات والشبهات، واليهود أيضاً يمدون الإِنسَانية بالشهوات والشبهات، فانتشار القمار، والزنا، والربا في كل مكان وفي كل عصر عَلَى أيدي هَؤُلاءِ.
      فكانوا يأتون إِلَى المنافقين ويقولون: نبيكم مُحَمَّد فيه كذا وكذا؛ لأنهم يعتبرون أن عندهم علم من الكتاب وأولئك أميون، فالمنافقون إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إِلَى اليهود -أي: إلى شياطينهم- قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون .
      فالغرض من ذلك هو دقة تعبير المُصنِّف -رحمه الله تعالى- لماّ قَالَ: [التي هي من أشرف الذوات] فلم يقل جبريل أشرف الذوات حتى لا يُفهم أنه يقول: إن ذات جبريل أفضل من ذات مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العلماء اختلفوا، هل هذا أفضل أو هذا أو هما سواء؟ وليس هذا هو مراد المُصنِّف هنا، وإنما مراده أن يخرج من الخلاف.
      فيقول لك: إن أصل مادة الشر هو إبليس، وأصل مادة الخير هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام؛ لأن ما جَاءَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخير والرسالة هو عن طريق جبريل، وكذلك كل ما أتى جميع الأَنْبِيَاء هو عن طريق جبريل عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: [فتبارك خالق هذا وهذا]، فتبارك الله الذي خلق أصل كل شر وخلق أصل كل خير، هكذا اقتضت حكمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
  5. الحِكَم من وجود المتقابلات

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله: [كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار] كيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا النهار سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟
    وكيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا الليل سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟
    الجواب: لا تصلح الحياة، لكن الله جعل الليل وجعل النهار، فاستقامت الحياة والمصالح، وانتظمت أمور العباد، وهذا دليل عَلَى حكمته تَبَارَكَ وَتَعَالَى في خلق هذين الضدين، (الدواء والداء).
    فلو كانت الدنيا كلها أدواء لما صلحت الحياة، ولو كانت كلها دواء، أو لا مرض فيها ولا داء، فإنها تفوت حكم عظيمة، لكن حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنها أدواء ومعها الدواء، ولذلك انتظمت مصالح ومعايش كثيرة لأناس كثيرون، فمرض هذا نفع لذلك، فإن كَانَ الذي مرض بالداء شريراً، استراح الخلق من شره.
    وأما إذا كَانَ المريض طيباً، فيستفيد الأطباء من ذلك.
    وأيضاً: مساعدة هذا المريض والإحسان إليه يحصل بسبب ذلك الأجر من الله.
    ومثال آخر: الله يبتلي بعض عباده بالفقر مع أنه مكروه لذاته -فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكره أن يفقر عبده الصالح- لكن هناك حكم كثيرة وراء ذلك، فيبتليه ليرفع درجته، وكذلك الإحسان إليه يكون سبباً في تحصيل الأجر من الله.
    وهكذا أمور كثيرة نجد أن لها حكماً عظيمة، يعجز العقل البشري عن حصرها، فتظهر بوجود هذه المتضادات المتقابلات، والله تَعَالَى هو العليم بكل شيء.
    وقوله: [والحياة والموت] الموت له حكم عظيمة، فإما أن يموت شرير فيستريح الخلق من شره، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مستريح ومستراحٌ منه}.
    فلو كَانَ فرعون وماركس وغيرهما -عياذاً بالله- أحياء لما وجد النَّاس راحة في حياتهم، فيكفي أن الأمم والشعوب عانت من شرهم مدة حياتهم، فلما ماتوا استراح النَّاس من شرهم، وكذلك موت الأخيار أيضاً فيه حكمة.
    فأفضل خلق الله مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلله عَزَّ وَجَلَّ حكمة في موت النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها: أنه بشر فلا يعبد من دون الله ولا يؤله.
    ومنها: أن يقوم النَّاس من بعده بالدين، ويعلموا أن مسئولية هذا الدين عليهم.
    ولهذا أعلنها الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: (من كَانَ يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كَانَ يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت) وارتد من ارتد من العرب، وتبقى الصفوة المختارة المؤمنة لترد النَّاس إِلَى الدين، وهذه حكمة عظيمة جداً، عرفنا بها أنّ ديننا من مسئوليتنا وأن نشره يكون عَلَى أيدينا، فالله تَعَالَى لو شاء لجعل النَّاس أمة واحدة، لكن حكمة الله اقتضت أن نبذل الجهد، فكم خرج من الْمُسْلِمِينَ! وكم قتل منهم في معارك الفرس والروم! وكم فُتح من البلاد وأسلم بسبب ذلك أناس كثيرون؟!
    فكان في ذلك كثير من الحكم والمصالح، ومع ذلك فإن موته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصيبة، فأعظم مصيبة حصلت في هذه الأمة فقده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعدلها أي مصيبة عَلَى الإطلاق، ومع ذلك فيها حكمة بل حِكم مما نعلم وما لا نعلم.. وهكذا.
    قوله: [والحسن والقبيح] ففي الحسن حكمة وفي القبيح حكمة، فلو كانت المخلوقات كلها حسنة ما عرف أنها حسنة، فُحَسنُ الحسَنِ لا يعرف جلياً إلا بقبح القبيح، ولهذا فإن بعض النَّاس قد يستقبح شيئاً، فإذا رأى القبيح رجع لذلك، وجعل له قيمة عظيمة، ولهذا فشكر النعم يأتي من نظرنا إِلَى من هو دوننا.
    فقد أمرنا النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننظر في أمور الدنيا إِلَى من هو دوننا وأقل منا.
    قوله: [والخير والشر] فلا تصلح حياة النَّاس لو كانت كلها خيراً، فكيف نعرف الأخيار من الفجار؟
    فلو كَانَ كل ما وجد في الدنيا خير ما ظهرت ميزة شيء عَلَى شيء، فهذه بهيمة الأنعام جعل الله الخير في ألبانها، وفي لحومها، وفي أصوافها، وفي أوبارها، فيستفاد من جميع أجزائها، حتى عظامها يُعمل منها صناعات معينة، فهذه كلها خير.
    وفي المقابل: الكلاب والخنازير والحيوانات السامة، هي شر، فجعل هذا وهذا لنعرف نعمة الله علينا بتلك فنشكره، ونعرف نعمة الله أن عافانا من هذه، وكيف لو خلق هذه مثل تلك -عياذاً بالله-
    .
    فإذاً.. بهذا نعرف أن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة.
    1. خلق المتضادات تحقيق لحكمة الله وكمال تصرفاته

      في خلق الله لهذه المتضادات المتقابلات تبيين قدرة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أن يخلق ما يشاء، وله في ذلك الحكمة، يقول: [وذلك] أي: وجود هذه المتناقضات والمتضادات [من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالَّ تصرفه وتدبيره]، فيصرفها ويدبرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيسلط إبليس عَلَى الكافرين، فيؤزهم أزاً، ويدفعهم إِلَى الشر، ويسلطه عَلَى المؤمنين فيرفضونه، ويعصونه، فترتفع درجاتهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ويسلط العقرب أو الحية، فتلدغ الفاجر فيكون ذلك عقوبةً ونكالاً وكفاً لشره عن الناس، ويسلطه عَلَى المؤمن، فيكون في ذلك رفعاً لدرجته وخيراً وطهوراً له من ذنوبه.. وهكذا، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها محالَّ تدبيره، يدبر الخير أو الشر كما يشاء عن طريق هذه المحالَّ.
      وعندنا أمران أمر بهما الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إبليس":
      الأمر الأول: أن يسجد مع الملائكة، وذلك عند ما قال الله للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) [البقرة:34] وهذا الأمر يشمل إبليس أيضاً، فقوله: "اسْجُدُ" يقابله عندنا فعل آخر، وهو: ((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم)) [الإسراء:64] الآية فهنا "اسجد" وهنا "استفزز"، فالأمر بالسجود أمر شرعي، لكنه لما قال له: ((وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ)) [الإسراء:64] فهذه الأوامر كونية، فالله تَعَالَى كوناً وقدراً قضى بذلك وقدَّره.
      [وليس أمراً بفعل ذلك] أي: أذن لك بذلك كوناً وقدراً، لكن النهاية أنت ومن اتبعك مصيركم إِلَى النار، وأما الأمر بالسجود الذي أمر الله تَعَالَى به المؤمنين وهو الأمر الشرعي، فيجب أن يطاع، لا أنه مجرد مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ولكن إذلال الشيطان لبني آدم هذا بمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ثُمَّ يقول: [فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه وتدبير ملكه] فلو خلا الوجود عن بعض هذه بالكلية، كما لو خلا من الليل فكان كله نهاراً، أو خلا من الأدواء وكان الوجود كله شفاءً وعافيةً، أو خلا من الموت فكان الوجود كله حياةً، أو خلا من القبح فكان الوجود كله حُسْناً، أو خلا من الشر فكان كله خيراً؛ لكان في ذلك تعطيل لحكمته ولكمال تصرفه وتدبير ملكه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن وجود هذه المتناقضات والمتضادات فيها تحقيق لحكمته ولكمال تصرفه، فلنتدبر ذلك ونتأمله.
    2. ظهورأسمائه القهرية

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
      [ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لا بد من وجود متعلَّقها، ولو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء] اهـ.
      الشـرح:
      إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أفعال تقتضي وجود وظهور آثاره، ومن أسمائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "القهار، شديد العقاب، سريع الحساب" فلو لم يكن هنالك من يُقهر، ويُحاسب، ويُعاقب، ما ظهر أثر هذا الاسم، وأيضاً "ذي البطش الشديد".
      فلو لم يوجد مجرم مذنب يكون أهلاً لوقوع البطش لما ظهر أثر هذه الصفة.
      وفي "الخافض" لو لم يوجد من يخفض ويستحق الخفض لما ظهر أثر هذا الاسم، وهو الخافض.
      وفي "المذل" لو لم يوجد من يستحق أن يذلَّ لما ظهر أثر هذا الاسم أو الفعل.
      فالقهار المنتقم يدل عَلَى أنه يوجد من يقهر، ويوجد من ينتقم عدلاً، ومن عومل بالعدل فقد هلك.
      "والضار" لأن الله تَعَالَى هو النافع الضار، فلو لم يوجد من يُضر بإذن الله سبحانه تعالى، وينزل به ضرر من الله، فأين سيظهر أثر هذا الاسم؟
      وهكذا كثير من أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأفعاله تقتضي وجود آثارها، وقد ذكر المُصنِّف آثار أسمائه المقابلة لهذه الأسماء المذكورة وهي المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته.
      قال المصنف: [فإن هذه الأسماء والأفعال] إذاً.. فبعضها أسماء، وبعضها أفعال، فهو لم يحب أن يدخلنا في قضية وهي: هل هذا اسم أم أنه ليس اسماً بل هو فعل؟ لكن كونها أفعال فلا شك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل الانتقام، فهو إذاً منتقم، فقد سمى نفسه ((عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)) وكونه "ضار" نَحْنُ لا نذكر هذا الاسم إلا مقروناً، فهو من الأسماء التي لا تذكر مفردة، لكن نقول: الله هو النافع الضار، والكلام الآن في جانب واحد وهو جانب الضرر، ويأتي بعد ذلك الجانب الآخر في الحكمة التالية التي تليها، فالكلام الآن عن جانب الضرر: القهر، الانتقام، الغضب، العقوبة.

      ويأتي بعد ذلك جانب العدل، والرحمة، والحلم، والعفو، والستر، والتجاوز، وكذلك أيضاً: الرافع والخافض، والمعز والمذل [فإن هذه الأسماء والأفعال كمال] وكل صفة كمال فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولى وأحق بها عَزَّ وَجَلَّ.
      يقول المصنف: [لا بد من وجود متعلقها] أي: لا بد أن يوجد متعلق هذا الاسم [لو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة] لو كانوا خيراً محضاً لما غضب، ولما انتقم، ولا أذل، ولا خفض، ولا بطش بأحد، لأنهم كلهم عَلَى طبيعة الملائكة، لكن لما كَانَ فيهم الأخيار وفيهم الفجار، والأخيار درجات، والفجار درجات.
      فمن هنا تظهر آثار هذه الأسماء، فجانب الأشرار والفجار يكون متعلق لهذه الأسماء والصفات، ولهذه الأسماء والأفعال، فينتقم ممن يستحق الانتقام منهم، ويبطش بهم، ويذلهم، ويخفضهم، وفي المقابل ما يتعلق بظهور آثار أسماءه المتضمنة لحلمه وعفوه.