ثُمَّ ذكر المُصنِّف قضية خطيرة وهي: أن هذا القول قد أفضى بقوم إِلَى القول بالحلول والاتحاد، وهذه أخطر من مجرد نفي الصفات.
فنفي الصفات كفر بالله عَزَّ وَجَلَّ يخرج من الملة؛ لأنه تكذيب لكتاب الله، ولكن أكفر منه مذهب الحلول والاتحاد الذين يقولون: لا يوجد متعيناً في الخارج.

وهذا مصطلح من المصطلحات اليونانية، فاستوعبت اللغة العربية هذه المصطلحات لأنها لغة واسعة، ومعنى هذا المصطلح: أنه إذا وجد أي شيء متعين خارج الذهن فلابد له من صفات، والله عندهم لا صفة له مطلقاً، -إذاً- لا يكون موجوداً متعيناً في الأعيان، وإنما يبقى في الأذهان فقط.
فجاء بعض علماء الصوفية وبنوا عَلَى هذا الكلام شيئاً آخر، فَقَالُوا: مادام أنه لا وجود له في الأعيان، فليس في حقيقة الأمر إله غير هذه الأعيان، وهي ذات الله سبحانه -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- فهكذا ركبوا قضية وحدة الوجود أو الحلول، فهذا العالَم هو الرب والإله، وهو الخالق والمخلوق معاً، ولذا قال المصنف: [وهذا أقبح من كفر النَّصَارَى]، لأن النَّصَارَى خصوه بالمسيح، فَقَالُوا: المسيح هو الله أو الإله حل في المسيح، وأما هَؤُلاءِ فَقَالُوا: حل في كل شيء، فالوجود الخارجي هذا هو نفس الإله.
ثُمَّ ذكر المُصنِّف ما يلزم قول هَؤُلاءِ فقَالَ:
[من فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه كاملوا الإيمان عارفون بالله عَلَى الحقيقة] أي: أن كل من أنكر الله عَزَّ وَجَلَّ فهو مؤمن بالله. وقول فرعون: ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24] صدق. فهذا هو لازم قولهم، بل صرح بعض الصوفية بأن فرعون كَانَ صادقاً عندما قال:((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) [النازعات:24]، لأنه ليس في الوجود إلا هو، فهو تكلم عن ذات الحقيقة، وهو من الوجود لم يكذب،
ولذلك ألفوا كتاباً في إثبات إيمان فرعون. وقال بعضهم: إن فرعون أصلاً لم يكفر ولم يشرك، وكل من عبد الأصنام، أو عبد الكواكب، أو عبد الأحجار، فإنه لم يعبد غير الله، وإنما اختلفت المسميات، أو اختلفت الأنظار، ومراد الكل واحد.
ولهم في ذلك أشعار -نسأل الله العافية- كما في شعر ابن الفارض، وابن عربي، بل في كتاب الفتوحات المكية لـابن عربي من أمثال هذا الكلام الشيء الكثير.
قال شاعرهم عبد الكريم الجيلي:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا            وما الله إلا راهب في كنيسة

نعوذ بالله من هذا القول الساقط الذي يستحي الإِنسَان أن يقول مثل هذا الكلام: أن الكلب والخنزير هو إلههم، وأن الله عندهم راهب في كنيسة.
وكما يقول: ابن عربي:

أدينُ بدينِ الحبِ أنَّى توجهت            ركائبُهُ فالحبُ ديني وإيماني
فأصبح قلبي حاوياً كل ملـةٍ            وكعبةُ أوثانٍ وديرٌ لرهبانِ

يعني أن جميع الأديان عنده سواء، فاليهود والمجوس والنَّصَارَى والْمُسْلِمُونَ كلهم يعبدون شيئاً واحداً، وكذا من يعبد الكلب والخنزير، ومن يعبد الشجر والحجر والكواكب، ليس هناك أي فرق لأن الموجود واحد، كما قال ابن عربي:

العبد رب والرب عبد            ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب            أو قلت رب أنى يكلف
أي ليس هناك تكليف نهائياً؛ لأنه إن كلفنا العبد فذاك رب، وإن كلفنا الرب فإنما يكلف العبد ولا يكلف الرب، فهذا هو دين القوم الذي يسمونه: توحيد خاصة الخاصة، ومن فروعه أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية لأن الكل واحد، بل هم اعترفوا ببعضه. فبعضهم لما أراد أن يزني بامرأة فامتنعت قال لها: الله أنا، وكلامهم موجود في مصادره. فسُبْحانَ اللَّه كيف ينتسب لهذا الدين من يقول هذا القول؟!
وأيضاً قالوا: الماء والخمر مشروب كله. ومن فروعه: أن الأَنْبِيَاء ضيقوا عَلَى النَّاس -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- لأنهم جعلوا لنا عبادات وعقيدة معينة، فجعلوا طريق الله واحداً وغيره باطل، بينما كل الطرق تؤدي إليه، وكل العبادات صواب -كما يقولون والعياذ بالله- إذاً الأَنْبِيَاء ضيقوا وحجروا واسعاً!!
وابن سبعين -وهو من أئمة الصوفية الحلولية- ترجم له الذهبي وغيره، ومما ذكروا: أنه كَانَ يتعبد في مكة، وأقام بـغار حراء فترة طويلة ينتظر الوحي.
وكان يقف بالطواف والنَّاس يطوفون ويقول: هَؤُلاءِ كالحمير التي تدور في الطاحون، فقالوا له: لم تتعبد عند الكعبة مادمت تقول هذا الكلام، فقَالَ: انتظر الوحي.
فقالوا: لا وحي بعد مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد انقطع الوحي.
فقَالَ: لقد ضيق ابن آمنة واسعاً.
فهذا دين القوم. نسأل الله السلامة والعافية.

وهم في الحقيقة زنادقة تستروا بالانتساب إِلَى الدين ليهدموه، وهذه النظريات ودعاوى الصوفية كلها تعود إِلَى الوثنية اليونانية.
فـالفلاسفة الرواقيون كانوا من أكثر النَّاس عبادة وزهداً، وكانوا يقولون: إذا أردت الحكمة أن تنقدح في قلبك وتنطق بها، فلا تأكل في اليوم إلا لوزة أو حبة.

وفيهم الفلاسفة المشاؤون، وهم الذين يلقى أحدهم الدرس التمهيدي وهو ويمشي ويقول: التفكير مع المشي أعمق، ولذا سموهم المشائين.
وأما الرواقيون فكانوا يجلسون بين الأروقة فسموهم رواقيين.
وكذلك أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد قالوا: إذا تعبدنا وزهدنا كثيراً في الدنيا، وضيقنا عَلَى أنفسنا فاضت علينا الحكمة والعلم اللدني، وينزل في قلوبنا العلم الباطن، حدثني قلبي عن ربي. لذا يقولون: أنتم تأخذون دينكم من ميت عن ميت. فتقولون: حدثنا عبد الرزاق -وقد مات- عن معمر -وقد مات- عن أيوب -وقد مات- وأما نَحْنُ فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.