ونحن نعلم جميعاً أن اليهود والنَّصَارَى افترقوا إِلَى حد الاقتتال، وأنهم كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر)) [البقرة:253] فهم اختلفوا وتفرقوا بغياً بينهم ((فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء))[المائدة:14].
وأخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن اليهود والنَّصَارَى اختلفوا، وأخبرنا في هذه الآية من سورة المائدة أن سبب اختلاف النَّصَارَى أنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.
ولو أخذنا هذه الآية فإنها تفسر لنا كثيراً جداً جداً من أسباب وقوع الخلاف بين الْمُسْلِمِينَ، كيف أنهم لما نسوا حظاً مما ذكروا به وقعت العداوة والبغضاء بينهم.
ونطبق هذه الجملة القرآنية عَلَى هذه الأمة، ونعرف أن هذه الأمة افترقت، بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مثلاً:
ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) [الفرقان:68-69] وجاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... إلخ}، وجاء في الحديث الآخر: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}.
وهكذا نصوصٌ كثيرة في مقام الوعيد، فجاءت الخوارج فأخذت حظاً مما ذكروا به، حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط، وَقَالُوا: إذاً من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة، وتركوا الأحاديث والآيات التي تفسرها وأخذوا حظاً مما ذكروا به وتركوا الحظ الآخر، مع أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة}، فقد فُسِّر ذلك بأنه ما كَانَ من قتال في عهد عَلِيّ ومعاوية، وشهد لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان والإسلام مع وقوع القتال، وفي آية الحجرات يقول تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)) [الحجرات:9] فالقتال يقع بين المؤمنين ولا يخرجهم من الملة، نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد، ولكن لا يخرج من الملة.
وأخذت المرجئة حظاً آخر مما ذكروا به، فأخذوا بآيات وأحاديث الوعد: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة}، فأخذوا بروايات مطلقة مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها، منها تكفير تارك الصلاة مثلاً: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} {بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة}، فتركوا جانب الوعيد كله، وأخذوا بجانب الوعد فقط.
وفي موضوع الصفات: فإثبات صفات الله عَزَّ وَجَلَّ جاءت في آيات كثيرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا كيف نؤمن بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ وأنها عَلَى جانبين: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] نفي وإثبات ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) هذا جانب نفي وتنزيه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) هذا جانب إثبات لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط، وقالوا لا يسمع ولا يبصر، وليس له يد ولم يستو ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، وإذا أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية، أصبح الإله من المخلوقات الممكنات، وأصبح له أعضاء والعياذ بالله، فقدموا أموراً لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقالوا نَحْنُ ننزه الله وننفي هذه كلها، ولو كانت في الكتاب والسنة، فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها، فأخذوا حظاً مما ذكروا به ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى: 11] ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)) [مريم:65] ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) [الإخلاص:4] ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ بمثل هذه الآيات.
وبالمقابل جاءت المشبهة ونسوا حظاً مما ذكروا به، وتركوا الآيات التي جاءت في تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأثبتوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصفات كما يليق بالمخلوق -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- مشابهين في ذلك لليهود عندما قالوا: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى -كما هو مذكور في التوراة- خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع والعياذ بالله!
فجعلوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتعب ويلغب، كما يلغب ابن آدم إذا عمل عملاً ما، ولذلك نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك فقَالَ: ((وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)) [ق:38] أي: لم يمسنا التعب ولا النصب ولا اللغب، وردّ عليهم، فجاء هَؤُلاءِ المشبهة، وأخذوا من اليهود التشبيه وزادوا عليهم فَقَالُوا: له يد كيدنا، فجعلوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مثل صفات المخلوق.
فإذا قال لهم أُولَئِكَ المعطلة: أنتم شبهتم، قالوا: أنتم عطلتم، لذا قال السلف الصالح: المعطل عابد عدم، والمشبه عابد صنم، فالمعطل عابد عدم لأنه يقول: إن الله تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله، وليس له يد، وليس له عين، وليس له أي صفة من الصفات، ولا يسمع ولا يبصر.
إذاً: فهذا معدوم غير موجود، فالمعطل عابد عدم، ولكن المشبه عابد صنم لأن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فإنما هو يعبد صنماً، لأن الأصنام نحتت لكي تعبد من دون الله، لكي يقَالَ: هذا هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والشاهد أن سبب الخلاف بينهما هو أن هذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي حظاً، وهذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي الحظ الآخر، فأغرى الله بينهما العداوة والبغضاء.
فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة، وفي كتب المشبهة يكفرون المعطلة، وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج، وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة، أغرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بينهم العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف أن لا يؤخذ الكتاب كله ولا يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.