قَالَ المُصنِّفُُ رحمه الله تعالى:
[ومن المُحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ عَلَى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إِلَى آخرها، ثُمَّ يتبع ذلك أصلان عظيمان:
أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
والثاني: تعريف السالكين مالهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم.
فأعرفُ النَّاسِ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ أتبعهم للطريق الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه، ولهذا سمى الله ما أنزله عَلَى رسوله روحاً، لتوقف الحياة الحقيقة عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فَقَالَ تعالى:((يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)) [غافر:15] وقال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ))[الشورى:52-53] فلا روح إلا فيما جَاءَ به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به. وسماه الشفاء كما قال تعالى: ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ))[فصلت:44] فهو وإن كَانَ هدىً وشفاءً مطلقاً، لكن لما كَانَ المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر. ا. هـ]

الشرح:
بعد أن ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أهمية العلم بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نبه إِلَى الأصل العظيم، وبداية انحرافات الفرق جميعاً التي تنتهي بها إِلَى الضلالة والهاوية.
وهي كيفية معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟

إن من المحال أن تنفرد العقول وحدها بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، أما الإدراك المجمل والمعرفة المجملة فهذه موجودة في الفطرة، قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172]، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخذ الميثاق الفطري ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))[الروم:30] -وسيأتي بحثها عما قريب- وهي موجودة لكنها لا تعطي معرفة تفصيلية، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عن طريق الوحي.
وأما العقول والأذهان فلا تستقل بمعرفة ذلك، ولهذا تخبطت الفرق الإسلامية تخبطاً شديداً لما اتبعت آراء المتخرصين المتهوكين بعقولهم.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نتبع الدليل الشرعي والوحي ((قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء:45] فنذارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وهذا الذي ميزنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به وكرمنا به، ثُمَّ إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9] فالوحي محفوظ ومعصوم، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا نبحث عن مصدر آخر غير هذا الوحي، وإلا فالضلال والويل والخسارة والتخبط واقع كما وقع لمن خرج عن منهج السلف الصالح.
نهاية إقدام العقول عقــال            وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فمن ينتهج غير منهج السلف الصالح نجد عادته جمع الأقوال والردود، وقال الحكماء، وقال فلان، ورد عليه فلان وفلان.
لا يصل أبداً إِلَى اليقين والحقيقة؛ لأن هذا الدين ليس مما يدرك بالنظر والعقول، وليس مما تنفرد به الأفهام والأذهان، وإلا لو كَانَ كذلك لما احتيج للأنبياء.