تقول المصادر الرسمية
للولايات المتحدة الأمريكية: إنها ثاني الدول الغربية تدينًا بعد
إيرلندا، ويقول المفكر (
إدوارد سعيد): (( إن
أمريكا هي أكثر دول العالم انشغالًا بالدين )).والواقع أن بين الدين الذي أسست عليه هذه الدولة والدين الذي تدين به اليوم بونًا شاسعًا، وهذا يصدق على حركة الموحدين الأولى وواقع الموحدين اليوم.فالمؤسسون الأوائل لـ
أمريكا كان منهم جمعٌ غفيرٌ من المهاجرين بدينهم المتسمين باسم (الحجاج)، وقد تحملوا مشقة الرحلة الطويلة إلى بلاد نائية فرارًا من الحروب الدينية الضروس التي اجتاحت
أوروبا، لا سيما منذ ظهور الحركة الإصلاحية.وكان من بين المؤسسين مفكرون وساسة يؤمنون بالتسامح، ويمقتون الاضطهاد بنفس المقدار الذي كان عليه مفكرو التنوير في
أوروبا أو أكثر، وهكذا أسسوا الدولة الناشئة على مبدأ فصل الدين عن الدولة، لكن بسبب وبشكل يختلفان عما هو الحال عليه في
أوروبا .ففي
فرنسا مثلًا؛ كانت الثورة الفرنسية معادية للدين، وكان فصل الكنيسة عن الدولة إقصاءً للمتدينين، وسلبًا لمكانة الكنيسة. أما في
أمريكا فقد جعلوه صيانةً للدين، وحفظًا لمكانة الكنائس، وأتاحوا للمتدينين الحرية في الانتماء إلى الكنيسة التي يريدون، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجاوزوه إلى الاتفاق على نفي أن تكون الدولة
نصرانية رسميًّا
؛ وذلك أن المؤسسين الكبار كانوا يؤمنون بأفكار عصر التنوير وفلسفاته التي ذكرنا مع تفاوت بينهم في الالتزام الديني الشخصي في الذهاب إلى الكنائس أو الانتساب إليها، إلا أن كنيسة واحدة فقط كان الانتماء إليها ينسجم مع الأفكار التنويرية، وهي الكنيسة الموحدة؛ بحيث يمكن القول: إنه لو كان للحكومة الناشئة أن تختار دينًا رسميًّا للدولة لما كان إلا دين الموحدين. وهذا ظاهر من استقراء عقائد الرؤساء الأوائل وعقائد المفكرين الأوائل، مثل: (
بنيامين فرانكلين)، و(
رالف أمرسن).ففي سنة (1785م) تحولت كنيسة الملك في
بوسطن إلى كنيسة موحدة؛ حيث قرر أعضاؤها حذف الألفاظ الدالة على التثليث في الصلوات، ثم أسست كنيسة موحدية في (
فيلادلفيا) سنة (1794م)، وبعد ذلك حدث تحول آخر مهم، وهو انتقال كنيسة الحجاج التي أسست سنة (1620م) إلى كنيسة موحدية سنة (1802م).وتوّج هذه الأحداث حدث من أعظم الأحداث في التاريخ الديني النصراني، وهو قيام الرئيس الأمريكي الثالث (
توماس جيفرسن) بتأليف إنجيل جديد هذب فيه الأناجيل المعروفة في نسخة منقحة, محذوف منها كل ما يدل على التثليث، كما حذف ما يدلّ على المعجزات, وهنا يظهر عليه أثر عقلانية عصر التنوير, إلا أن (
جيفرسن) لم يكن منتميًا إلى كنيسة، ومن ثم يحسبه الباحثون ــ غالبًا ــ بين الفلاسفة، لا بين المتدينين، ونحن سوف نتسامح في هذا الشرط عند ذكر رؤساء
أمريكا من الموحدين عمّا قليل.في سنة (1825م) أسست المنظمة الموحدية في
أمريكا، ثم أسس المجمع الوطني في سنة (1865م)، ولم تزل الحركة في صعود مستمر ــ لاسيما بين الطبقة المثقفة ــ حتى بلغ الذروة في تولي أحد الموحدين (
وليام تافت) رئاسة
الولايات المتحدة، وأعقب ذلك توليه رئاسة الموحدية سنة (1917م).وآخر المشهورين من السياسيين الموحدين هو (
أدلاي ستينفس) المرشح الرئاسي الذي كان وزيرًا في حكومة (
جون كندي) الرئيس الكاثوليكي الوحيد
للولايات المتحدة, وقد توفي سنة (1965م)، ولم ينجح (
أدلاي) في أن يصبح رئيسًا.إنه باسترجاع مرحلة تأسيس
أمريكا يجدر القول بأن المسلمين بسبب تخلفهم الديني والحضاري حينئذٍ، قد فوتوا فرصة عظيمة حيث كانت الدولة الأمريكية الناشئة مهيأة لاعتناق التوحيد الحقيقي، والدخول في دين الإسلام، وإن شئت فقل: إنه كان يمكن أن يكون للمسلمين مكانة كبرى في ذلك المجتمع الجديد، لو أن الأمة والدعوة في ذلك الحين كانت في حال أفضل.