تعرض الموحدون لاضطهاد هائل من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع النصرانية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق. ومن هنا ــ مع ما أصاب بعضهم من الابتداع ــ صدق على المتمسكين منهم أنهم (بقايا) كما جاء في الحديث: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) ، وفي قوله تعالى: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ))[آل عمران:113]، فإنَّ من كانوا على بقية من الحق عند بعثته صلى الله عليه وسلم أعم مِنْ أن يكونوا من أتباع المسيح عليه السلام فحسب؛ وذلك أن كثيرًا من اليهود خارج فلسطين لم تبلغهم دعوة المسيح عليه السلام، أو لم يتبينوا حقيقة رسالته، وظلّوا على الحق الذي في التوراة حتى أشرق نور الإسلام .
فلما ظهر نور الإسلام وأضاء ما بين الخافقين دخل أكثر الموحدين فيه، وبقيت منهم بقية على حالها وكانت على صنفين:
الأول: من بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به. وعن هؤلاء يقول العالم المهتدي الحسن بن أيوب من علماء القرن الرابع الهجري: ((ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفًا منهم يعرفون بـالآريوسية يجردون توحيد الله، ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام، ولا يقولون فيه شيئًا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح، مقرّون بما جاء به تلامذته والحاملون عنه. فكانت هذه الطبقة قريبةً من الحق، مخالفةً لبعضه في جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودفع ما جاء من الكتاب والسنة)).
والآخر: من لم تبلغه الدعوة لبعد الشُّقّة، أو بلغته على الصورة البالغة التشويه التي نشرتها الكنيسة الحاقدة على الإسلام ولاسيما كنيسة روما.
والثابت تاريخيًّا أن التوحيد كان عقيدة منتشرة في أوروبا في القرون الميلادية الأولى، لكن اختلفت أحوال الشعوب الموحدة، فبعضها مثل (الإيرلنديين) استطاعت الكنيسة البابوية استئصاله قبل الإسلام, وبعضها مثل (الأندلسيين) ظهر الإسلام والحرب لا تزال قائمة بينهم وبين روما.
ومن الظواهر البارزة في التاريخ الديني الأوروبي: أن الشعوب البعيدة عن تأثير السيطرة الرومانية كانت أقرب إلى الفطرة، ومن ثم أكثر قبولًا للتوحيد من غيرها، وربما كان الاضطهاد الذي مارسه الرومان على الشعوب الخاضعة لهم أعظم أسباب قلة الموحدين فيها.
ففي بريطانيا كان الموحدون أول من أدخل النصرانية إلى الجزر البريطانية، وكان لهم فيها تاريخ طويل حتى انتقال مركزهم إلى أمريكا كما سيأتي.
وفي إيرلندا كان الناس يدينون بالتوحيد، ويعملون بشرائع التوراة، بل يسمون أنفسهم (ناصريين) حتى غزاهم الرومان في القرن الخامس الميلادي، واستأصلوا عقائدهم, وأحرقوا أناجيلهم المعروفة بالأناجيل (السلتية)، التي كانت خالية من عقيدة التثليث.
وفي الأندلس ظلت الحروب بين الرومان وبين الموحدين حتى ظهور الإسلام، ويعزو المؤرخون من شرقيين وغربيين سرعة انتشار الإسلام هناك إلى أنهم كانوا في الأصل على التوحيد.
وإجمالًا يمكن القول: إن تاريخ شعوب أوروبا الغربية وشمال أفريقيا قبل الإسلام تاريخ للصراع بين الكنيسة الرومانية وبين الآريوسية، ويشمل ذلك القوط والفاندال والسلت والبربر وغيرهم.
يقول (سلفستر شولر): ((من المعلوم أن جميع البرابرة الذين استقروا على ضفاف الدانوب وعلى ضفاف الإمبراطورية (الرومانية) قد اعتنقوا أمة بعد أمة المسيحية الآريوسية... وهكذا أخذت الآريوسية تجتاح البلاد التي يقيم فيها البرغوند والسويف والفندال واللومبارد، وغدت ديانة هذه الشعوب الوطنية)) .
هذا عدا انتشار الموحدين في مصر وبلاد الشام والعراق وفارس والحبشة ومليبار.
ثم كان أبرز الأحداث في تاريخ الموحدين هو قيام مملكة لهم في رومانيا في القرن السادس عشر؛ حيث كان الملك (جون سيقموند) المتوفى سنة (1571م) موحدًا، ولا يزال فيها أكبر تجمع للموحدين في العالم بعد الولايات المتحدة؛ حيث يبلغ عددهم ثمانين ألفًا، وفي بولندا تكاثر الموحدون حتى أرغمهم البرلمان سنة (1658م) على اعتناق الكاثوليكية ، إلا من فرّ منهم إلى هولندا وإنجلترا، وهناك التقوا مع الفارّين من الأندلس بعد سقوطها في يد المَلِكَيْن الكاثوليكيين (فردنند) و(إيزابيلا).
وفي فرنسا ظهر الموحدون سنة (1550م) باسم (الهجونوت) إلا أن الكاثوليك شنوا عليهم حربًا ضروسًا في أيام الملكة (كاترين) وابنها (هنري) حتى استأصلوهم سنة (1572م)، إلا من استطاع الفرار إلى هولندا، ثم إلى أمريكا .