المادة كاملة    
أورد هذا الدرس الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة العلم لله تعالى، ثم بيَّن أن الله تعالى موصوف بالعلم أزلاً وأبداً، ومن ثمّ ذكر أن الجهمية تنفي صفة العلم كنفيها لبقية الصفات، مع توضيح درجات المنكرين للصفات. ثم شرع في بيان المرتبة الثانية للقدر وهي الكتابة، فبيّن أن الأعمال مكتوبة، وأن النهاية معروفة ومحددة، ومن هنا طرأ سؤال: لماذا وفيم العمل؟ فأجاب عنه، ثم وضح أن عمل العبد مخلوق لله، وركز على أهمية المداومة على الأعمال الصالحة؛ فإن الأعمال بالخواتيم.
  1. إثبات صفة العلم لله تعالى

     المرفق    
    1. أدلة إثبات العلم

      قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
      [وقد علم الله تَعَالَى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه].
      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى :
      [قال الله تَعَالَى :((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الأنفال:75]((وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً))[الأحزاب:40] فالله تَعَالَى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلا وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً))[مريم:64] وعن عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: {كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثُمَّ قَالَ: ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنَّار وإلا قد كُتبت شقية أو سعيدة، قَالَ: فَقَالَ رجل: يا رَسُول الله أفلا نمكث عَلَى كتابنا وندع العمل؟ فقَالَ: من كَانَ من أهل السعادة فسيصير إِلَى عمل أهل السعادة، ومن كَانَ من أهل الشقاوة فسيصير إِلَى عمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قَالَ: اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثُمَّ قرأ: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى))[الليل:5-10]} خرجاه في الصحيحين] اهـ.

      الشرح :
      استدل المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى إثبات العلم لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ببعض الآيات التي تدل عَلَى أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليم بكل شيء أزلاً وأبداً، فقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الأنفال:75] وقوله تعالى: ((وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) [الأحزاب:40].
      فكلمة "شيء" عامة تطلق عَلَى الكبير والصغير فإذا قلنا: "أي شيء"، فهم منه أن الكلمة هي أعم الكلمات، ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ))[الأنعام:19]، فالله تعالى يطلق عليه شيء، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) ويقول:
      ((وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يخفى عَلَى علمه أدنى ما يمكن أن يوجد في حيز الوجود.
    2. الفرق بين الأزل والأبد

      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فالله تَعَالَى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً] الأزل والأبد كلمتان متقابلتان تطلقان عَلَى أمرين متقابلين، فالأزل يطلق عَلَى ما ليس له ماضي ولا بداية له، والأبد يطلق عَلَى ما لا نهاية له.
      فلا بداية لعلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلم يكن الله عَزَّ وَجَلَّ في وقت من الأوقات جاهلاً بأي شيء كَانَ أو سيكون، ثُمَّ تجدد أو حصل أو بدا له علم في هذا الشيء، وكذلك لا يأتي عليه جل وعلا وقت يكون فيه لا يعلم بعض الأشياء، أو ينسى بعض الأشياء، ثُمَّ يقول المصنف: [لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة] وكلمة "علمه" هنا مفعول و"جهالة" فاعل، فالجهالة لم تتقدم علم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، بل هو عليم منذ الأزل وإلى ما لا نهاية كما قال تعالى: ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)) [مريم:64] أي: لم ينسَ الله تَعَالَى فيما مضى أمراً أو شيئاً قد علمه، وكذلك لا ينسى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المستقبل أمراً يعلمه الآن، أو فيما مضى
    3. الجهمية تنفي صفة العلم

      الذين أنكروا صفة العلم لله تَعَالَى هم الجهمية الذي أنكروا جميع الأسماء والصفات، وهَؤُلاءِ أخرجهم بعض السلف رحمهم الله كـعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض وأمثالهما من أجلة السلف من فرق الأمة، وَقَالُوا: هذه ليست من الاثنتين والسبعين فرقة، بل تلحق بفرق اليهود والنَّصَارَى والْمُشْرِكِينَ، لأنهم لم يثبتوا لله تَعَالَى اسماً ولا صفة.
      وكذلك لم يمار في هذه المسألة ممن ينتسب إِلَى الإسلام إلا الفلاسفة الذين تفلسفوا في مسألة العلم وَقَالُوا: إن الله تَعَالَى يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عما يصفون- بل هو بكل شيء عليم ، وأما من أنكر جميع الصفات كـالجهمية ومنها صفة العلم فهَؤُلاءِ خارجون عن جميع الملل، وهناك من هو شر منهم وهم غلاة الباطنية..
    4. درجات المنكرين للصفات

      تقدم في أول هذا الكتاب بيان درجات المنكرين للصفات، ولو رتبناهم بحسب قربهم من أهل السنة فنقول: الأشعرية يثبتون الأسماء وبعض الصفات، ثُمَّ أبعد منهم المعتزلة يثبتون الأسماء دون الصفات، ثُمَّ درجة ثالثة الجهمية ينفون الأسماء والصفات إلا أنهم يثبتون الوجود المطلق، ويلحق بهم الباطنية وهم أتباع للفلاسفة وجزء منهم في الحقيقة، فهَؤُلاءِ لا يثبتون حتَّى الوجود، وإنما يثبتون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المتناقضين، فيقولون: لا نقول إنه موجود، ولا غير موجود، والتعبير الصحيح عنهم أن نقول: إنهم يصفون الله برفع النقيضين، ولا نقول إنهم يثبتون النقيضين، وهَؤُلاءِ لا شك في كفرهم عند جميع الملل.
  2. إثبات الكتابة لله تعالى

     المرفق    
    ثبت في الحديث المتفق عليه عن أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {كنا في جنازة في بقيع الغرقد} وهذا الموقف -موقف الموت- من أبلغ المواقف في قلوب البشر، وكثير من النَّاس لا يرِق قلبه ولا يلين لا في مسجد ولا في حلقة علم ولا ذكر؛ لكنه عند مشهد الموت وحين يدفن يقر الميت في قلبه الإيمان ويخشع ويعترف بتقصيره وذنبه، وربما كَانَ ذلك بداية لأن يلين قلبه لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيما بعد.
    ولهذا كَانَ من السنة أن تزار المقابر، وأن تشيع الجنائز، فالنَّاس يعتبرون ويتعظون بمن سبقهم إِلَى الدار الآخرة.
    ثُمَّ يقول: {فأتانا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقعد وقعدنا حوله} فقعد رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُفهِّم ويُعلِّم ويذكر النَّاس في الموقف المهيب، وتحلق الصحابة الكرام حوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجلسوا جلسة مهيبة كَانَ عَلَى رؤوسهم الطير من الخشوع ومن استحضار هيبة هذا الموقف، وهيبة السؤال، وجلوسهم بين يد المعلم الأكبر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواعظ البليغ ليعظهم ويرقق قلوبهم في هذا الموقف.
    ثُمَّ قَالَ: {ومعه مخصرة} أي: عصاً صغيرة ينكت بها الأرض {فنكس رأسه، فجعل ينكت بمخصرته} هذه الرواية تقول: (فنكس رأسه) أي: النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً أطرق رأسه وأخذ ينكت بمخصرته الأرض ويبحث بها، وهذا دليل عَلَى أن الإِنسَان يكون مشغولاً بأمر عظيم، فلو دخلت عَلَى إنسان ورأيته جالساً عَلَى هذه الهيئة لاستشعرت أنه يفكر في أمر عظيم، وأنه يريد أن يقول شيئاً عظيماً.
    ثُمَّ رفع صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه وخاطب أصحابه بهذه الموعظة البليغة فقَالَ: {ما من نفس منفوسة -وفي رواية: ما منكم من أحد- إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النَّار}، والصحابة الكرام رضوان الله تَعَالَى عليهم في هذا الموقف، وقد دفنوا أخاً لهم، كل منهم يفكر في هذا الإِنسَان هل هو من أهل الجنة، أو من أهل النار؟
    كل إنسان منهم مشغول، وكيف لو كَانَ أحدنا مكانه ماذا يكون جوابنا، وهل نثبت أو لا نثبت؟
    وكانت قلوب أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حية بذكر الله، وكانت الآخرة حاضرة أمام أعينهم كأنهم يرونها دائماً، وذلك لحياة قلوبهم.
    فكأنهم يرونها بأبصارهم، ففي هذا الوقت جاءتهم هذه الموعظة من النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيخبرهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر عظيم لو تفطن له الإِنسَان لأخذه العجب العجاب فَيَقُولُ: {ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النَّار} والآن نَحْنُ الأحياء ما منا أحد إلا وقد كتب الله مكانه إما في الجنة أو النار، والعجيب أننا نتفكر في هذا الميت أهو شقي أم سعيد؟ أما نَحْنُ الأحياء فلا يخطر ببالنا أن كل واحد منا مكتوب أنه شقي أو سعيد.
    1. الأعمال مكتوبة والنهاية معروفة

      فهم الصحابة الكرام رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أن الأعمال مكتوبة، ونهاية هذه الأعمال معروفة، إما الجنة أو النار، فهي مكتوبة عند الله، فسأله الصحابة، حتى تعرفوا أن الصحابة الكرام هم أعلم وأذكى وأفطن وأبلغ النَّاس وأفقههم، ولم يأت بعدهم من هو قريب منهم في هذه الصفات فضلاً عن أن يكون مثلهم.
      جاء هذا السؤال الذي يتساءل النَّاس به دائماً والذي كثيراً ما يخطر عَلَى لسان، أو عَلَى قلب كل أحد، ويسأل بعضهم بعضاً، ما دام أنه مكتوب كل ما أعمل والنهاية معروفة ومحددة ففيم العمل؟ قال رجل منهم: أفلا نمكث عَلَى ما كتب لنا وندع العمل؟
      والحقيقة أن هذا السؤال له أجوبة كثيرة، وقد يبسط جواب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتفرع منه أجوبة، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائماً يجيب بالجواب العملي المقنع السريع، فلو أن إنساناً قَالَ: أنا لا أريد أن أعمل خيراً ولا شراً، وإنما أكتفي بكتابي، وأدع العمل، فهذا مستحيل أن يحصل، ومستحيل أن يبقى جماد لا يتحرك، فمثلاً المؤذن: إن ذهب إِلَى المسجد عمل خيراً، وإن لم يذهب عمل شراً، ومن رأى منكراً أمامه إن نهى عن المنكر عمل خيراً، وإن لم ينه عنه عمل شراً، ومن أكل من حلال عمل خيراً، وإن أكل من حرام عمل شراً.
    2. الإنسان حارث وهمام

      انظر إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قَالَ: {وأحب الأسماء إِلَى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام}، فلا بد فيه من حكمة، لأن الرجل قد يسميه أبوه ظالماً، وهو رجل عادل، فاسمه هذا غير صادق، كما أنك عندما تسمي ذلك البخيل اللئيم كريم فاسمه غير صادق، لكن التسمية بحارث وهمام أسماء صادقة.
      فمن النَّاس من يكدح ليلاً ونهاراً في المعاصي والذنوب فهو حارث، وكذلك آخر أعماله كلها خير فهو حارث، فيكون هذا الاسم أصدق الأسماء، وأصدق الأسماء أيضاً همام، لأن الإِنسَان أياً كَانَ ذا خير أو شر يمدح أو يذم فهو حارث وهمام، فإنه يحرث -لا بد له من عمل- وهمام لأنه يهم بخير أو شر، وهذا بمعنى الإرادة.
      فسواء حرث خيراً أو شراً فهذا أصدق الأسماء، وهو حقيقة الإِنسَان النفسية وهي أنه لا يخلو فكره عن العمل قط.
    3. وبالمثال يتضح المقال

      يقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: فكر الإِنسَان كالطاحون يدور، ثُمَّ يدور، وهكذا الإِنسَان لا يتوقف عن الهمّ، فإن الإِنسَان في أي لحظة وهو مستيقظ يفكر في شيء، والفكر يدور ويجول ولا يتوقف، فإن شغل فكره بالتفكير في الله عَزَّ وَجَلَّ وفي آياته وخلقه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، واجتهد في طاعة الله فنتيجة ذلك أنه سيعمل أعمالاً صالحة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن لم يشغل وقته في التفكير في أعمال الخير، فإنه سيفكر في ضدها من أعمال الشر.
      وجاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تَعَالَى فيه، ولم يصلوا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إلا كَانَ عليهم ترة يَوْمَ القِيَامَةِ} أي: نقصاً، وحسرة، وندامة يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلك أنهم لم يذكروا الله في هذا المجلس فيمر هذا الوقت خسارة عليهم.
      ولهذا فالسؤال بأننا نتكل عَلَى ما كتب وندع العمل، قلنا: إنه غير وارد لأنك يا أيها الإِنسَان حارث وهمام قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ))[الانشقاق:6] خيراً كَانَ أو شراً، تكدح فتلاقيه، ويقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه))[الإسراء:84] قال ابن عباس وغيره: عَلَى طريقته.
      فكل إنسان بحسب إرادته ونيته يعمل، ولا يوجد إنسان لا يعمل أبداً، فلابد أن يعمل، فإما أن يكون الكدح والعمل عَلَى نهج، فيه خير وسنة وطاعة، فهذا مقبول، وإما أن يكون العمل عَلَى نهج وطريقة فيها فجور وضلال وشر، فيكون العمل والكدح شراً ضائعاً، ولهذا قال: ((فَمُلاقِيهِ)).
      ثُمَّ فصل فقَالَ: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)) [الانشقاق:7] ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)) [الانشقاق:10] أي: النَّاس الذين يعملون ويكدحون فإنهم لن يخرجوا عن هذا الأمر، إما أن يكونوا من أصحاب اليمين، وإما من أصحاب الشمال.
      فلابد من معرفة قيمة الزمن وقيمة العمر من قيمة الفكر نفسه، ولابد من محاسبة هذا القلب القاسي المتحجر كم مضى عليه من دهور لم يخشع لله عَزَّ وَجَلَّ، ولم يلن له، ولابد من التفكير في أعمارنا، فالكل في لهو وفي لعب، والكل في الباطل والحرام إلا من رحم الله، والأحرى أن نبكي عَلَى فوات العمر الذي ضاع في غير طاعة، وأن نبادر بالتوبة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نتدارك هذا العمر، ولهذا قال عَزَّ وَجَلَّ: ((أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) [فاطر:37] أي: أعطيناكم مهلة كافية حتى يتذكر كل ذي لب، ويرجع عن غيه، ويعرف طريق الهدى المستقيم ((وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)) إن كَانَ النذير هو الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد جَاءَ إِلَى من بعث فيهم، وسنته جاءت إِلَى من بعده، وفسره بعض السلف بأنه الشيب، وهو نذير مفارقة هذه الحياة، فإذا عمر الإِنسَان وجاءه النذير فقد أعذر الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَى من بلغ الستين ولم يتب
      .
      فالإِنسَان إما أن يعمل خيراً أو يعمل شراً، ولهذا جَاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجواب يتضمن هذا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة} فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب بجوابين متضمن لما ذكرنا وزيادة وهو أنه عندما سئل ألا نمكث عَلَى كتابنا وندع العمل قَالَ: {بل اعملوا فكل ميسر لما خلق الله..}.
      ففي الحالين الشيء الموجود الذي لا بد منه هو: العمل، وإنما الخلاف فيما يكون العمل، أهو عمل خير، أو عمل شر، ويتحدد هذا بالتيسير من الله عَزَّ وَجَلَّ.
      فمن كَانَ من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وهل في ذلك ظلم؟
      جَاءَ في رواية أخرى للحديث: {لما قال عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: لأختبرن أبا الأسود الدؤلي قال: أفلا يكون ظلماً، يكتب عليهم ثُمَّ يدخلهم الجنة أو النَّار. قال: ففزعت فزعاً شديداً، قلت: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}.
      فانظر إِلَى قوة فكره وعقله، أين الظلم من هذا التيسير الذي يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ أمر مشاهد محسوس، فإذا رأيت الإِنسَان يقرأ القُرْآن، ويحب مجالس الذكر، ويحب مخالطة أهل الخير، ويحرص عَلَى ما يقربه إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فنقول: إنه من أهل السعادة، مع أننا لا نقطع لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النَّار، لكن الذي نقطع به أننا نقول: إن الذي يعمل الطاعات ويكره المعاصي والمنكرات فهذا هو سبيل أهل السعادة، وأن الذي يعمل المعاصي ويحب أهل المعاصي.
      فنقول: إن هذا هو سبيل أهل الشقاوة والفجور، وإلا فلا يجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبا لهب وحمالة الحطب وأبيَّ بن خلف وأمية وأمثالهم الذين عذبوا المؤمنين مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا وقتلوا، فإن هَؤُلاءِ مشو في طريق آخر، وكل من الطريقين سيؤدي بصاحبه إِلَى النتيجة التي لا بد منها، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يسر لهَؤُلاءِ عمل أهل السعادة، ويسر لأولئك عمل أهل الشقاوة.
    4. هداية العبد للإيمان فضل ومِنّة من الله تعالى

      فأما من سلك سبيل السعادة ووفق في الثبات عليها فمن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فضلاً ومنةً وكرماً، ولهذا فإن الصحابة الكرام لما أنشدوا كانوا يقولون: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا). وكما قال تعالى: ((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [الحجرات:17] فالمنِّة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك من يُسر لعمل أهل الشقاوة فهذا عدل، وليس في كلا الحالتين ظلم.
      ولهذا لما احتج المُشْرِكُونَ عَلَى الشرك بالمشيئة في قولهم: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)))) [الأنعام:148] قلنا: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رد عليهم بالحجة العظيمة وهي إرسال الرسل فقَالَ: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))[النحل:36] فليس هناك حجة وقد جاءتكم الرسل تنذركم كما قال الله تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) [النحل:36] فالمجرمون حق عليهم الضلالة فلم يوفقهم الله للهداية، لأنهم أهلاً لئن يكونوا من أهل الشقاوة، فقد كانوا يرون أنفسهم عَلَى الشر بالسير في طريق الشقاوة، ولم يحاولوا أن ينصرفوا إِلَى الخير مع قيام الحجة عليهم، ووضوح البينة واستبانة الطريقة. ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له}.
  3. أفعال العباد مخلوقة

     المرفق    
    يقول الله تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى))[الليل:5-10] في هذه الآية أُسند الفعل ((أعطى واتقى))، ((بخل واستغنى)) إِلَى العبد، فالعبد هو الفاعل، فهو إما أن يعطي ويتقي، وإما أن يبخل ويستغني، وعمله هذا وفعله مخلوق لله عَزَّ وَجَلَّ، وفي هذا رد عَلَى المعتزلة القدرية مجوس هذه الأمة، الذين قالوا: إن العبد يخلف فعل نفسه، وفي هذا أيضاً رد عَلَى القدرية الجبرية، عندما قلنا: إن العبد هو الفاعل، لأنهم يرون أن الله هو الفاعل.
    1. علم الله السابق

      مرتبة العلم دل عليها الحديث السابق، ودل كذلك عَلَى مرتبة أخرى وهي مرتبة الكتابة، فإن الله قد كتب مصير كل نفس في الجنة أم النَّار، ولهذا قلنا: إن المراتب الأربع يمكن أن نختصرها إِلَى مرتبتين العلم والكتابة ومرتبة الخلق والمشيئة مرتبة ثانية، فالمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أتى بالآيات الدالة عَلَى أنه لا حجة للخلق عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، بل لله الحجة البالغة عَلَى خلقه أجمعين.
      ولوضوح عبارة الطحاوي لم يتعرض المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ لها وهي قول الطّّحاويّ: [وقد علم الله تَعَالَى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل...] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يعلم عدد أهل الجنة وأهل النَّار، فلن يزداد في هَؤُلاءِ، ولن ينقص من هَؤُلاءِ أحد، وهنالك دليل تقدم معنا يدل عَلَى ذلك وهو: لما استخرج الله سبحانه من ظهر آدم ذريته فقَالَ: (هَؤُلاءِ للجنة ولا أبالي، وهَؤُلاءِ للنار ولا أبالي).
      إذاً: فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما استخرجهم منهم أصحاب اليمين، ومنهم أصحاب الشمال؛ فالأمر قد قضى وانتهى، وجفت به الأقلام، وجرت به المقادير، وكذلك أفعالهم علمها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
      والحديث الذي أورده المُصنِّف يدل عَلَى هذا في قوله: [ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة أو النار] ثُمَّ عقب هذا الكلام بقوله: [وكل ميسر لما خلق له].
    2. الأعمال بالخواتيم

      قال الإمام الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
      [وكلٌ ميسرُ لما خُلق له، والأعمال بالخواتم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله]
      الشرح :
      وقوله: (والأعمال بالخواتم) يوضح أهمية كون الأعمال بالخواتم ما جَاءَ في حديث ابن مسعود الآتي الذي فيه دلالة عَلَى أن أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النَّار ميسرون لعمل أهل النار، ويكون حال الإِنسَان الثابت المؤكد لذلك بحسب ما ختم له من أعمال، فلا يحكم للعبد بمجرد ما يظهر للناس، ولهذا فإن من أصول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنه لا يقطع لمعين بالجنة أو بالنَّار، إلا من شهد له الله ورسوله، لخفاء الخاتمة والعاقبة للإنسان، ولا يعني ذلك إساءة الظن بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وأنه قد يوجد إنسان يجتهد في الطاعات، ويبذل من الخير والصلاة وقراءة القُرْآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا إِلَى الموت، والله قد كتب عليه أنه من أهل النَّار، فلا يليق هذا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وكذلك لو أن شخصاً مجرماً وظالماً فلن يموت مؤمناً، لأن الله كتب أنه من أهل الجنة فيدخل الجنة، ليس الأمر كذلك، ولا يمكن أن يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما فيه إساءة الظن بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
      لكن في هذا تنبيه لشيئين عظيمين، الأول: اتهام النفس والعمل، والثاني: عدم القطع لأحد بالجنة أو النَّار ورد الأمر إِلَى مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما اتهام النفس: لأنك مهما اجتهدت في الطاعات، فالأصل أن تبقى خائفاً من سوء الخاتمة، وتخاف أنها لم تُقْبل كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) [المؤمنون:60] وليس هَؤُلاءِ الذين يزنون ويسرقون، بل هم الذين يتصدقون ويصلون ويعملون الطاعات، ولكن قلوبهم وجلة أنهم إِلَى ربهم راجعون، لا يدرون أتُقبلت منهم أم لا -كما فسر ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيدفعه ذلك إِلَى أن يجتهد، كما جَاءَ في حديث الشبهات {كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه} فالذي يخاف من سوء الخاتمة عليه أن يزداد عمقاً في الخير والصدقة والإنفاق ومحاسبة النفس واتهامها فلا يأتيه العجب أو الغرور، فيكون ذلك أدعى إِلَى أن يلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى خير وعلى خاتمة طيبة؛ ولكن لو أخذه الغرور والعجب ودخله الرياء، وأعجب بعمله -عجب بنفسه وأعجب النَّاس به- فهذا قد يكون سبب هلاكه وخسارته وضياعه.
      وأما الأمر الثاني فقد دل عليه حديث سهل بن سعد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النَّار -في الحقيقة وعند الله- وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس وهو عند الله -في الحقيقة- من أهل الجنة}، وأما الذي يعمل بعمل أهل الجنة وهو من أهل النَّار فكالمرائين والمنافقين يحجون، بل كانوا يجاهدون مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا عمل أهل الجنة لكنهم في الحقيقة من المنافقين وأمرهم واضح.
      والأمر الخفي أو الأقل وضوحاً هو: أمر الذي يعمل بعمل أهل النَّار، وقد يكون في الحقيقة من أهل الجنة، وذلك لأننا لا نطلع عَلَى أحوال العباد جميعاً، فقد نرى شخصاً -مثلاً- مقصراً في بعض الصلوات فهذا عمل من أعمال أهل النار، ولكن لديه مثلاً مرض عضال لا يطلع عليه أحد، وهو صابر ويحتسب أجر هذا المرض عند الله عَزَّ وَجَلَّ وإذا رأيته تقول: هذا مقصر، وفي بعض الأوقات لا يأتي إِلَى المسجد لصلاة الصبح، لعل المرض يمنعه من الحضور، وإن كَانَ لا حرج أن نبني الحكم عَلَى الظاهر، لكن في الحقيقة يجب علينا أن نتهم علمنا، وأن نتهم أحكامنا، ونعرف أنها فقط عَلَى الظاهر، أما عند الله فلا ندري لعل هذا الرجل الذي نراه جلفاً غليظاً قاسياً ونقول: هذا من أهل النَّار ربما كَانَ براً بوالديه. نَحْنُ لا نرى ماذا يصنع مع أمه وأبيه، وربما كَانَ ممن يتصدق في السر، وإن كَانَ يفعل بعض المعاصي في العلن، وهكذا فقد يأتي الإِنسَان بعمل أهل الجنة في الظاهر وهو في الحقيقة عند الله من أهل النَّار، أو يعمل بعمل أهل النَّار في الظاهر، وهو في الحقيقة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أهل الجنة.