الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:فقد سبق لي الحديث ــ شفهيًّا وكتابيًّا ــ عن مسؤولية المتطرفين في الإدارة الأمريكية عما يحدث في بلاد الإسلام من ردود فعل غير محسوبة، وهنا أوجه حديثي إلى بعض المشايخ الفضلاء، الذين كان لهم قبل الأحداث الأخيرة وبعدها موقف متميز عن سائر العلماء، ذلك الموقف الذي جعل بعض الشباب لا يأخذون العبرة مما حدث، وأوقعهم في حيرة من أمرهم.إن هؤلاء الشباب أمانة في أعناق الجميع، والصراحة والصدق معهم واجب على كل من يريد وجه الله، ويحرص على قطع الطريق على من يتربص بالدين وأهله، ويشوِّه سمعة الإسلام ويستر محاسنه. إن مراعاة المصالح والمفاسد من أهم ما يجب على الدعاة والمربين نشره وتأصيله في منهج الدعوة إلى الله والعمل لنصر دينه، بناء على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله في كتابه كما في قوله تعالى: ((
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ))[الأنعام:108]، وانتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته الزكية، ومن ذلك إبقاؤه بناء الكعبة على قواعد الجاهليين بدلًا من نقضها وبنائها على قواعد إبراهيم ــ عليه السلام ــ، ومثل تركه قتل المنافقين الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله: ((
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:66]، وقوله: ((
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا))[التوبة:74]، وكان مما هموا به ارتكاب أكبر جريمة في الدنيا وهي اغتياله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء وغيرهم من المنافقين لم يُجْر عليهم من أحكام الكفر شيئًا، بل عاشوا وماتوا مشمولين بأحكام أهل القبلة ظاهرًا، مع استمراره صلى الله عليه وسلم في جهادهم بالحجة والموعظة، والتحذير منهم والإعراض عنهم وغير ذلك.وإن مخالفة سنته واتخاذ غيره أسوة لا يورث إلا الفتنة والعذاب: ((
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[النور:63]، وهذا إبراهيم ــ عليه السلام ــ الذي أوحى الله تعالى إلى سيد الخلق أجمعين باتباع ملته، كما في قوله تعالى: ((
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا))[النحل:123] تعلّل بأنه سقيم، ولم يقل: إني أريد أن أخلفكم في أصنامكم بما تكرهون، ولم يقر بأنه الذي حطم الأصنام بل أوقع أعداءه في الإيهام فقال: ((
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا))[الأنبياء:63]، هذا وهو إمام الموحدين وهو القدوة في البراءة من المشركين، وقد خاطب أباه بألين خطاب وألطفه كما في سورة مريم، ولما يئس منه وعد بالاستغفار له حتى نهاه ربه.كما أن السياسة الشرعية من أعظم أنواع الحكمة التي يهبها الله لأوليائه وجنده قبل أن يُمكِّن لهم في الأرض وبعده، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهادن قبائل
اليهود، ويصالح قريشًا، وينصرف عن ثقيف، ويستميل زعماء غطفان وغيرها بالعطاء، وكان إذا أراد أن يغزو قومًا ورّى بغيرهم، وإذا عاداه قوم حرص على مصالحة الآخرين ليتفرغ لهم، وإذا حالفته قبيلة مثل خزاعة، وهب مشركها لمسلمها ولم يستعْدِه؛ إذ لو فعل فربما خسر القبيلة كلها، وكان صلى الله عليه وسلم يفرق بين من نصره وحماه من المشركين، وبين من عاداه وآذاه وآذى أصحابه، كما أن المشركين كان منهم من تقاسموا على الكفر وعلّقوا صحيفة الجور والحصار في الشعب، ومنهم من أنكره ومزَّقها.إنه لمن المؤسف أن تغيب هذه الحقائق عن بعض الدعاة وطلبة العلم، أو يستجرهم حماس بعض الشباب إلى إهماله، فنجدهم يستسلمون لأمواج الأحداث، ويدفعون بأنفسهم إلى موقع التهمة المباشرة في كل حادث، ويظهرون خلجـات صدورهم على الأوراق، ولا يميزون بين ثبات مبدأ العداوة في الدين، وبين سعة أساليب التعامل مع المخالفين، مع صراحة النصوص في أن المخالفين لنا في الدين ليسوا على حكم واحد، بل منهم المحارب المعتدي، ومنهم المسالم العادل، ومنهم النائي بداره عنا فلا تربطنا به علاقة حرب ولا سلم، بل منهم من تقتضي المصلحة أن نتركه ما تركنا، ولا نهيجه علينا، وقد جاء هذا الأخير منصوصًا عليه وهو مذهب بعض فقهاء الأمة
، هذا عدا من يربطه بالمسلمين عهد ذمة أو صلح أو هدنة أو أمان، والأمة الواحدة أو القبيلة الواحدة يكون فيها نوعان من هؤلاء أو أكثر، والتفريق بينهم في التعامل ثابت بصريح القرآن، وصحيح السنة، وسيرة الخلفاء الراشدين، وإجماع العلماء. إنني أذكّر هؤلاء الأفاضل بأن العلماء يجب أن يقودوا لا أن يقادوا، وبأن الشجاعة في مواجهة الحماس غير المحسوب لا تقل أهمية عن الشجاعة في مواجهة العدوان.وإن اتهامًا يوجه إليك أيها الشيخ أو الداعية بأنك مخذِّل أو متخاذل ــ مع درء فتنة عظيمة عن الأمة والدعوة ــ خير لك وللإسلام من أن يكال لك الثناء، ثم تلقى الله وفي عنقك أنفس مسلمة معصومة، وأموال مسلمة معصومة، أو أسرى من المسلمين بيد العدو أخذهم غنيمة باردة، وذرائع لأهل الكفر يتسلطون بها على أهل الإسلام، وأسباب لأهل النفاق يحاربون بها الدعوة، ولا شيء يقابل هذا إلا موت عدد من الناس قد يموتون في حادث سيارة، وقد يكونون ضد حكومتهم في عدوانها، بل قد يكون فيهم مسلمون كما رأينا في تفجيرات
الرياض، فلو كان قتلهم جائزًا من كل الوجوه لكانت النتيجة خاسرة بميزان المصلحة والمفسدة.إخواني! إنه يجب إعادة النظر في مفهوم النصر والهزيمة، والربح والخسارة، وفقًا لطبيعة المرحلة وأهداف الدعوة على منهاج النبوة، وقد مرّ المسلمون في أول الإسلام بثلاث مراحل ذكرها شيخ الإسلام
ابن تيمية، قال: ((كانوا قبل
بدر يسمعون الأذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه، وبعد
بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم فيؤمرون بالصبر عليه، وفي
تبوك أمروا بالإغلاظ للكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ومنافق من أذاهم في مجلس خاص ولا عام))
.وإذا قمنا في كل مرحلة بواجب الوقت، وراعينا واجب المكان أيضًا فذاك مقتضى الحكمة والمصلحة الدينية، فمثلًا قبل أيام من وقوع التفجيرات الأخيرة حدث في السفارة الأمريكية في
الرياض حادث كان مصلحة للدين، ونصرًا للمؤمنين، وغيظًا لليمين المتطرف والأصوليين الإنجيليين، وكان بطل هذا الفتح هو الداعية الإسلامي (
ذاكر نايق) الذي ألقى محاضرة عن الإسلام هزت قلوب الحاضرين، وأسلم بعدها اثنان من الموظفين حالًا. وهنا نسأل: أليس الأجدر بالدعاة إلى الله أن يقتحموا ميدان الدعوة لفتح القلوب، وأن لا يخلطوا بين ميادين الجهاد هناك على الثغور، وبين ميادين الدعوة هنا في
الرياض؟ وأن يقاوموا العدوان متساندين لا متخالفين، وبذلك تتوازى أعمال الأمة ولا تتعارض، ويلقى المعتدون المحتلون جزاءهم العادل، وفي الوقت نفسه يجد المنصفون منهم والراغبون في الخير طريقهم إلى الإسلام، ويرون تقديرنا لرفضهم العدوان، عملًا بما أخبرنا به ربنا وما نراه بأعيننا من أنهم ليسوا سواءً، وقد اعتقلت حكومتهم الطاغية أكثر من ألف منهم في يوم واحد بسبب رفضهم العدوان علينا، واحتجاجهم على ذلك بإقامة الحواجز على الطرق الرئيسية!.ومن جهة مراعاة واجب المكان نقول: هذه الحملة الظالمة التي قامت على الإسلام بسبب الحادث في
أمريكا وغيرها، وهذه الضجة من الاستنكار له في العالم الإسلامي عامة، والمملكة خاصة، هل كانتا ستقعان لو وقع هذا الهجوم على قاعدة أمريكية في
أفغانستان أو
العراق ؟.إذا كنا متفقين على الجواب بالنفي، فلماذا لا نتفق على وضع كل شيء في موضعه الصحيح؟.إن حجم الاستنكار هنا في الداخل فاق كل التصورات، ولو قال قائل: إنه إجماع لصدق، وهذا أمر عادي بل مطلوب، ولكن له جانب سيئ هو أن مثل هذه التفجيرات التي تقع هنا وهناك من بلاد الإسلام تلحق ضررًا مباشرًا بالمجاهدين المرابطين على الثغور، وبقضاياهم العادلة، وحقهم المشروع في مقاومة المحتلين، وهم أكثر الناس معرفة بحجم الضرر، أو هكذا ينبغي أن يكونوا، فالقول قولهم لا قول الأدعياء الذين لا يعرف من هم!.ومن هنا أدعو الإخوة المشايخ إلى مراجعة موقفهم ومصارحة الشباب بذلك، كما أدعو الإخوة المجاهدين جميعًا إلى استنكار هذه الأعمال، ودعوة الأمة إلى توحيد صفها لنصرتهم وتسديدهم، وأدعوهم إلى توجيه الشباب من أتباعهم إلى ترك هذه الأعمال ولاسيما في دار الإسلام، وتوجيه جهودهم إلى جبهات القتال، وثغور الرباط وحدها، والحرص على كسب تأييد الشعوب، وقبل نشر هذه السطور اطلعت على إعلان إخواننا المجاهدين في الأرض المقدسة واستنكارهم لما حدث فنعم ما فعلوا. إن أمن بلاد الحرمين أمنٌ لكل مسلم من ساكن ومقيم وحاج ومعتمر، وهو أمنٌ للدعوة وللجهاد في كل مكان، وهذا أصلٌ عظيمٌ يجب أن يكون نصب أعين كل عالم وداعية ومجاهد من المسلمين في أرجاء الأرض كلها، ولنكن جميعًا يدًا واحدة في الضرب على يد من يريد مسخ عقيدة الأمة وتبديل شريعتها وتشويه مناهجها، وإفساد أبنائها وبناتها، ويحارب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها كائنًا من كان.فهؤلاء هم الذين يريدون أن يخرقوا السفينة، ويهدموا الحصن الأخير للإسلام، وليس العدو هو حامل السلاح علينا فقط، بل هؤلاء الذين قال الله فيهم: ((
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))[المنافقون:4]، وجهادهم نوع آخر مطلوب كجهاد أولئك، لكن بغير وسائله، قال تعالى: ((
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))[التوبة:73]، وما يسعون إليه هو أكبر من كل تفجير وأعظم من كل تدمير، قال تعالى: ((
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ))[البقرة:191]، وللحديث عن هؤلاء مقامه الذي لا تحتمله هذه الذكرى. إن من يتأمل حالنا مع الله، وموقعنا من الاعتصام بحبله والتمسك بهديه، لا يعجب من وقوع البلاء، بل يعجب من سعة رحمة الله وفضله علينا وعفوه عن كثير مما كسبت أيدينا، فالابتعاد عن هدي الله وشريعته يتزايد، والمنكرات تتكاثر، والغفلة تستحكم، والاغترار بمتاع الدنيا يسلب الألباب، والركون إلى الظالمين وموالاة الكافرين يجاهر بهما الناعقون، وقائلو كلمة الحق والناصحون المشفقون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر تسكتهم قوة الباطل، وتأكل لحومهم وسائل الإعلام، ودعاة الشرك والبدعة يرفعون رؤوسهم بلا حياء ولا وجل، وبعض المحسوبين على الدعوة أعرضوا عن قول الله تعالى: ((
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ))[الفتح:29] وأمثالها من الآيات.وقوله صلى الله عليه وسلم: (
كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله)
وأمثالها من الأحاديث، واشتغلوا بالثلب والتجريح لمن يخالف رأيهم من العلماء والدعاة والخطباء، يلتمسون لهم العيوب ويتصيدونها بأبعد التأويلات، ويطعنون في سرائر القلوب والنيات، ويطمسون المزايا والحسنات، ويستخْفون بهذا من الناس، ولا يستخفون من الله، وأمة هذا حالها جديرة بأن يلبسها الله شيعًا، ويذيق بعضها بأس بعض، ويسلط عليها عدوًّا من سوى أنفسها. نسأل الله تعالى أن يتوب علينا جميعًا، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنه جواد كريم.سفر بن عبد الرحمن الحوالي 14/4/1424هـ