الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والصلاة والسلام على معلم البشرية كل خير وهدى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن الله تعالى برحمته التي وسعت كل شيء قد يسر القرآن للذِّكر، وأغنى بالوحي عن وساوس القلوب وأوهام الفكر، وجعل هذه الأمة أكملَ الأمم عقولًا وأعمقَها إيمانًا، فهم الآخِرون زمانًا، السابقون فضلًا وإحسانًا، أُمّة أُمِّيّة لم تكن تحسب ولا تكتب؛ ولكنها أصح الأمم حسابًا، وأحفظها كتابًا، تنال المطالب العالية بالوسائل العادية، بل تمشي رويدًا، وتجيء في الأول، عجائزها في البادية تفقه من حقائق الوجود ما تقاصرت عنه أكابر العقول في الفلسفات كلها، الآيات الجلية في متناول يديها بلا عناء، والبراهين العقلية تجري على ألسنتها بلا كلفة، منطقها في نفس لغتها، وتفكيرها بنفس قلوبها، فلا محادة بين القلب والفكر، ولا مناكرة بين العقل والنقل.
هذا ما وهبها الله واختصها به، ولكن سبق القلمُ باقتفائها آثارَ مَن سبقها من الأمم، فأبت طائفةٌ منها إلا عبور المضايق الدقيقة، وركوب اللجج العميقة بلا دليل معصوم ولا اهتداء بالنجوم، وإنما اعتمدوا فيما يزعمون على عقولهم المجردة، فتاهوا وضاعوا، ولم يجدوا هناك إلا حطام من تاه قبلهم وضاع من مغامري الأمم المحرومة من نور الوحي، وخيرُهم من عاد إلى الشاطئ كسيرَ الفؤاد حسيرَ النظر، ورضي بالتسول مع العجائز المعدَمات على أبواب أهل اليقين والثبات.
إن هؤلاء ــ وبدون اتهام لمقاصدهم وتنقيص لعقولهم ــ لم يفقهوا أن النظر العقلي كالنظر البصري له حدوده التي لا يتجاوزها، مهما تطورت وسائله واتسعت آفاقه.
ألا ترى أن أكبر مرصَد فلكي في العالم ينقلب خاسئًا وهو حسير إذا تعمق في أبعاد الكون، كما كان ينقلب طرْفُ العربي قبل أربعة عشر قرنًا حين يقلبه في السماء مجردًا من كل آلة.
ألا ترى أن حقائق الرياضيات التي تقطع الأمل في اجتياز حدود العقل البشري لم تتغير في جوهرها منذ (أرخميدس) حتى الآن، وإن تغيرت الوسائل وتطورت النظريات، والفَرق: أن (أرخميدس) كان يعدّ الأشياء بعدد ذرات الرمل، أما العِلم الحديث فيقيسها بذرات الكون بل بمحتوى الذرة، ويستخدم أرقامًا خيالية لا يمكن تسميتها ولا كتابتها، فيقول مثلًا: إنك لو افترضت رقمًا هو عبارة عن (واحد) وعلى يمينه من الأصفار ما لو جعلت الأرض ورقة واحدة لوصل خط الأصفار إلى نهايتها، بل لو ضاعفت الورقة مليارات الأضعاف ثم قارنت هـذا الرقـم باللانهاية لكانت نسبتـه هـو والرقـم (واحـد) سواء.
ويقول هذا العلم: إن الكون نشأ عن الانفجار العظيم، وظل يتمدد ولا يزال، والسؤال: أين يتمدد؟ بل أين وقع الانفجار؟.
إن العقل البشري لا يستطيع أن يتخيل الانفجار والتمدد إلا في مكان وزمان، ولكن العلم يقول: إن هذا التخيل خطأ قطعًا! فالزمان والمكان إنما وُجدا داخل العالم لا قبله ولا خارجه، وإذن فلا جواب على هذا السؤال أبدًا!.
وهكذا فالزمان والمكان وكل ما تدركه حواسنا من الموجودات هي من النسبية بحيث لا يحق لنا ادعاء تصور كُنْهِ حقائقها فضلًا عن التحدث عنها، وصدق الله تعالى: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا))[الإسراء:85]، وصدق جلّ شأنه حين قال: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ))[الكهف:51].
وإذا ثبت هذا في المحسوسات؛ فما بالك بما لا يدخل تحت الحواس! بل لا يمكن أن يدخل تحت خيالنا المحدود! فأي سخافة وحماقة ترتكبها أمة الوحي المعصوم حين ترجع في هذه الحقائق إلى عقل (طاليس) و(أرسطو) و(أفلاطون) وغيرهم من خرّاصي الأزمان الغابرة، في حين أن علماء الكون من سلالة هؤلاء وجنسهم لا يعتدُّون لهم برأي، بل لا يذكرون آراءهم إلا على سبيل التمثيل للسذاجة العلمية والبدائية في التفكير!، ولا يخدعنك وصف كبار المتكلمين لهم بأنهم: جهابذة الحكماء، أو هرامسة الدهور، فما أدخلَ الأمة في جُحر الضب إلا هؤلاء وأشباهُهم.
وعليه فحين يدافع شيخ الإسلام عن الحق في قضية دقيقة المنزع بعيدة الغور وهي قضية (دوام الحوادث أزلًا وأبدًا)، ويُعمل عقله الجبار وقلمه السيال فيها حتى يستنزف المجلدات، وحتى ليكاد الجاهل يحسبه يتكلم بما لا يفهم، ويخوض في محيط لا يقتحم؛ فإنما يدافع عن النقل الصحيح والعقل الصريح معًا، وليس ترفًا من البحث كما قد يظن بعضهم! ولا ولوعًا بالحشو كما افترى أعداؤه!.
إنه يدافع عن المعرفة البشرية عامة لكي تظل حرّة من قيود التقليد وأسر الجمود ــ دون مبالاة بقول من يقول: إنه وافق الفلاسفة الدهرية، أو شذ عن إجماع متكلمي الأمة!! ــ لأنها متى تحررت كانت قادرةً على فهم الوحي وإنزاله منزلتَه، فإما أن تؤمن به, وإما أن تقوم الحجة الرسالية عليها، أما خلْطُ حقائق الوحي بزُبالات العقول الخراصة؛ فإنه يزعزع إيمان المؤمنين، ويكون فتنة للجاحدين، وهذا ــ مع بالغ الأسى ــ ما فعله المتكلمون.
لقد أشرقت شمس الإسلام على العالم وهو يتخبط في ركام هائل من مخلفات الأمم الغابرة، ما بين أديان محرفة، وفلسفات متناقضة، وعبادات باطلة، أهمها هنا: الفلسفة اليونانية التي ورثت حثالة الفلسفات وأورثتها لمتفلسفي المسلمين، واشتهر لها مذهبان أو مدرستان:
الأولى: الفلسفة التي تدعي أن وسيلة المعرفة الكشفُ والإيحاء، وتسمى (الإشراقية)، ويسميها متفلسفة المسلمين (المشرقية)، وشيخها (أفلاطون).
والأخرى: الفلسفة التي تدّعي أن وسيلة المعرفة النظرُ والاستدلال، وهؤلاء هم أصحاب المنطق، وشيخهم (أرسطو).
وكلا النوعين ورث عن بقايا النبوّات شيئًا من الحق كما ورث عن قدماء المشركين ــ لا سيما الصابئة ــ الشركَ بالله تعالى، وعبادةَ الكواكب، والسحرَ، وتقديسَ الأضرحة، فلا يكاد يثبت لأيٍّ منهما في باب الاعتقاد والتألُّه ابتكار أو إبداع يهتدي به الضال أو يستيقن به الشاك، وغاية ما أحدثوه: في الشكل لا المضمون كما في علم المنطق.
ومن أعظم القضايا التي خاض فيها هؤلاء ــ بل كل الفلاسفة في قديم الدهر وحديثه ــ قضيتان:
1- حدوث العالم أو قِدمه.
2- إثبات النبوة أو عدمه.
وفي القضية الأولى: ذهبت المدرسة الأولى إلى أن العالم محدَث بعد أن لم يكن، وإن لم تفقه قضية الخلق كما تفقّهها الأمم الكتابية.
في حين ذهبت الأخرى إلى أن الأفلاك قديمة لا أول لها، ونسجت عن نشأة الوجود خرافة لا نطيل بذكرها، وظهر هذا الاختلاف في أتباع كلا المدرستين من متفلسفة المسلمين مثلما بين (ابن رشد) و(ابن سينا).
وحينما يتصدى المشتغلون بالكلام المذموم لهؤلاء وأرادوا إثبات حدوث العالم لكن بغير طريق الوحي وعلى غير منهج القرآن؛ دخلوا في المتاهات التي أشرنا إليها، وخاضوا فيما لا طاقة للعقول بالاستقلال به، ولا قِبل لها بالوصول إلى غايته.
فقد تعمق هؤلاء في الحديث عن أصل الموجودات ــ أو الحوادث كما سموها ــ وعلاقة ذلك بأولية الخالق تعالى وتفردِه بالقِدم، وارتكبوا خطًأً قاتلًا حين قرروا أن العقل يحكم باستحالة حوادث لا أول لنوعها ــ أي غير مسبوقة بالعدم المطلق ــ، وظنوا أن الرسل جاءوا بإثبات ذاتٍ معطلة عن الخلق زمانًا ثم خُلقت، وعليه فلا يصح عندهم وصفُ أفعال الله تعالى بأنها أزلية!!.
والعجب: أنهم يسلِّمون بدوران الحوادث ــ أو تسلسلها ــ في المستقبل، لكن حصرت عقولهم عن تجويزه في الماضي توهمًا منهم أن ذلك قول بقِدم العالم، وأصروا على هذا الأصل الفاسد الذي لا برهان عليه من عقل ولا نقل، حتى إن منهم من شذ فالتزم القول بمنع ذلك في المستقبل أيضًا، وقال بفناء الجنة والنار أو فناء حركاتهما!!.
ووفق الله أهل السنة والجماعة فأثبتوا أن أفعاله تعالى أزلية أبدية، وأن ذلك مقتضى اتصافه جل شأنه بصفات الكمال، فكانوا بذلك أعمقَ الناس إيمانًا، وأسدَّهم عقولًا، وافقوا الحق ووفقوا بين العقل والنقل دون إيغال ولا تكلف، ولم يتخلوا عن بعض الحق من أجل إثبات بعضه الآخَر، وحسبُك بأمثال (الإمام أحمد) و(ابن المبارك) و(البخاري) و(الدارمي) علمًا وفهمًا.
فهذا لب الصراع في القضية الأولى.
وأما القضية الأخرى (إثبات النبوة) التي بها يفتح باب السمعيات كافة؛ فتواطأ على إنكارها أو تأويلها الفلاسفة كلهم وتبعهم الباطنية وغلاة الصوفية، وخيرُهم طريقة من قال: (إن الشريعة والفلسفة رصيفان، والنبي والفيلسوف سِيَّان).
ولا يهمنا هنا من الحديث عنها إلا بيانُ الرابط بينها وبين الأولى، فإن المتكلمين لما أخطأوا في تقرير مسألة حدوث العالم وأصّلوا ذلك الأصل الفاسد؛ جاءوا إلى هذه القضية، وصاغوا برهان إثباتها بما يرجع إلى الأولى التي ضلوا فيها وتقهقروا، فكانت الكارثة مضاعفة.
لقد صاغ هؤلاء القوم برهان إثبات النبوة وصِدق الرسول الذي هو أصل الأصول في سلسلة من القضايا ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من العقل الصحيح برهان، وهي: (أنه لا أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم، ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات، ولا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح ــ يعنون المرسل وهو الله تعالى ــ، ولا يثبت أنه لا يفعل القبيح إلا إذا ثبت أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه، ولا يكون مستغنيًا إلا إذا كان غير جسم، ولا يكون غير جسم إلا إذا ثبت إنه قديم).
ومن الواضح أن هذه السلسة كلها تتساقط إذا نقضت قاعدتها، أي: آخر قضاياها، فمن زعم أو ادعى أن المرسِل غير قديم، أو أن العالم قديم؛ فقد أبطل تلك القضايا كلها، ومنها إثبات النبوة، وكذلك عندهم من زعم أنه جسم!.
وهكذا استمات هؤلاء واستبسلوا في إثبات أن الأجسام كلها حادثة، وأن المحدِث لها ليس جسمًا، وبالتالي لا يتصف بصفات الأجسام، ومن هنا وقعوا في التعطيل، واتبعوا فلاسفة اليونان في وصف الله تعالى بالتجريد والإطلاق دون صفة ثبوتية، على تفاوت بينهم في ذلك، لكن الأصل الذي اتفقوا عليه في حدوث العالم ومنع دوام الحوادث في الماضي ونفي حلول الحوادث بالله هو الذي دارت عليه مؤلفات القوم، وعنه تشعبت أقوالهم.
فقد ورثوا عن اليونان أن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة وهي (الاجتماع والافتراق والحركة والسكون)، وهذه الأكوان هي في الحقيقة أعراض.
فمن هنا اعتمدت كل طائفة منهم طريقة في إثبات حدوث الأجسام:
1- فـالمعتزلة اعتمدوا طريقة الحركة والسكون، وتبعهم إمام الأشعرية المتأخرين (الرازي).
2- والأشعرية كـالجويني والآمدي اعتمدوا طريقة الأعراض.
3- والأشعري نفسه والكرامية اعتمدوا طريقة الاجتماع والافتراق.
وبعد أن قررت كل طائفة حدوث الأجسام على طريقتها؛ توصلوا إلى إثبات حدوث العالم وقِدم الخالق بأساليب مختلفة:
إما بالقول بـ(أن ما لم يسبق المحدث محدّث فتكون الحوادث كلها لها أول؛ لأن كلًّا منها له أول، وما ثبت لآحادها ثبت لمجموعها؛ لأنها ليست سوى آحادها)، وهذا أصل نفيهم دوام الحوادث والتشبث بأن لها أولًا، مع ما يستلزمه ذلك من لوازم باطلة أظهرُها: تعطيل الخالق عز وجل عن الفعل أزلًا، بل وعن الكلام والإرادة وغيرها.
وإما بالقول بـ(أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث)، فوجب عندهم تنزيه الله تعالى عن أن يقوم به ما جعلوه حوادث كالكلام والإرادة والغضب والرضا، وجعلوا ذلك هو حقيقة التوحيد، واتهموا من أثبت تلك الصفات إما بأنه مشرك؛ لأنه أثبت تعدد القدماء، أو مجسِّم مشبِّه؛ لأنه أثبت لله ما هو من خصائص المحدثات.
ولم توفق أية طائفة منهم إلى التفريق بين نوع الحوادث وآحادها، وأنّ حكم المجموع قد يخالف حكم الواحد عقلًا وشرعًا وحسًّا، وإلى فهم أن نفي اتصاف الرب بالأفعال الاختيارية هو تنقص لكماله شرعًا وعقلًا، بل التزمت كل طائفة لوازم باطلة كالقول بأنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار كما ذهبت المتفلسفة، أو القول بأن الفعل هو عين المفعول، وأن صفاته تعالى ــ ومنها كلامه ــ مخلوقات منفصلة عنه كما هو مذهب غلاة النفاة من الجهمية والمعتزلة، أو أنها قديمة لازمة لذاته لا تجدُّد فيها ولا تعلُّق لها بإرادته ومشيئته كما هو مذهب الأشعرية ومَن وافقهم.
وهكذا نجد أن الطريق الذي بدأ من قضية واحدة وفرض خطأ، وهو أن هذا العالم مسبوق بالعدم المطلق واستخدام ذاك البرهان المزعوم تشعب إلى متاهات لا قرار لها، فأصبحت هذه القضية ملتقى جملة من الأصول العقدية الكبرى التي تضاربت فيها الآراء قديمًا وحديثًا ــ وكل قضية منها آخذة بعنق أختها، فالحديث عن واحدة منها مستلزم الحديث عن الأخريات ــ، وهي:
1- حدوث العالم وطريقة الاستدلال عليه، وهل هو مخلوق بالإرادة والفعل الاختياري, أم بطريقة الفيض والصدور واستلزام العلة للمعلول... إلخ؟.
2- الحوادث وهل لها أول أو لا أول لها، وعلاقة ذلك بما بعده وهو:
3- قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى.
4- إثبات النبوة والطريق الحق إلى ذلك.
5- مفهوم التوحيد أو التنزيه عند طوائف الأمة وغيرهم.
فالموضوع إذن على جانب عظيم من الأهمية، ولا بد لمن أراد الانتصار للحق من أمور:
1- أن يرفض تلك السلسلة العقلية المزعومة من أصلها برفض أن يكون إثبات النبوة متوقفًا على المعجزات كما فسروها، والتأسيس لذلك بأن المعرفة بالله ــ بل وبصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ــ لا تنحصر في النقل وحده، بل يتضافر عليها العقل والنقل.
2- نقض المقدمات التي قررها المخالفون ونقد المصطلحات التي تركبت منها (مثل الأزل، الزمان، الجسم، الحادث، الجوهر، العرض، التسلسل، التغير... إلخ).
3- إثبات قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى نقلًا وعقلًا، واتصافه جل شأنه بكل صفات الكمال المطلق.
4- بيان التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب.
5- إظهار الفَرق بين إثبات قِدم نوع الحوادث وإثبات قدم أعيانها، وبيان أن قِدم نوع الحوادث هو مقتضى إثبات الفعل والإرادة والكلام لله تعالى أزلًا، بل هو مقتضى الحياة؛ لأن كل حي فاعل بحسب ما يليق به من أنواع الفعل، والله تعالى حي قيوم لا أول لذلك باتفاق المسلمين، فلزم إثبات فعله أزلًا.
وأهل السنة مجمعون على إثبات نوع كلامه أزلًا، وإن كانت آحاد كلامه ــ مثل تكليمه لـموسى عليه السلام ــ حادثة، ولهذا سهل عليهم إثبات نوع الحوادث أزلًا، لأن فعله تعالى يكون بكلامه: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82]، فثبت له تعالى نوع الكلام ونوع الخلق أزلًا كما ثبت له الحياة أزلًا، فهو تعالى لم يزل ولا يزال يخلق شيئًا بعد شيء، أو عالمًا بعد عالم بلا أول لذلك في الماضي، ولا آخر للمستقبل.
فإن عَسُر عليك فهم هذا فاعتبره بما لا يزال يخلق في الجنة من أنواع النعيم الذي لا ينتهي أبدًا، وما قدَّرته مستقبلًا قدِّره ماضيًا, جاعلًا ذلك في النوع لا في الأفراد، واستعن على تصور المسألة ومحاجة المخالفين بهذه البراهين المستمدة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله:
1- أن الحادث المعين والحوادث المتناهية ــ ولو قدرت ألف ألف ألف حادث ــ سواءٌ في الحكم بالنسبة إلى ما لا يتناهى، وهذا يذكرك بما سبق الحديث عنه في أول المقدمة.
2- أن افتقار مجموع الحوادث إلى مُـحدث هو مثل افتقار الواحد منها بل أعظم، ((فليس في تقدير حوادث لا تتناهى ما يوجب استغناءها عن القديم)) ، ومن ثَمَّ فلا مشابهة بين القول بهذا وقول الفلاسفة الدهرية.
3- أنه ما من زمن يفترضه العقل حدًّا لابتداء الخلق إلا أمكنه أن يتصور قبله زمانًا ابتدأ فيه الخلق، فيكون هذا الزمان الآخر أولًا له، وما تصوره العقل في الثاني يصدُق عليه ما صدق على الأول، وهكذا إلى ما لا نهاية.
فالعقل البشري عاجزٌ عن تصور اللانهاية، لكنه يجب أن يتعامل معها باعتبارها حقيقة، فلا يتكلف تصورها ولا يتعسف بنفيها.
4- يمكن للعقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث، كما يتصور أنه ما من حادث إلا وبعده حادث، وما من عدد إلا وبعده عدد، وهو يعلم أن كل حادث فله أول، وكل منقضٍ فله آخر، وكل عدد فله حد ومنتهى، وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى.
5- أن يقال لمن يقول: إن الله تعالى خلق شيئًا هو أول مخلوقاته بإطلاق: أيجوز أن يخلق الله قبله شيئًا أو يمتنع؟ فإن قال: يجوز، فهذه هي المسألة؛ فقد أجاز حوادث لا أول لها، وإن قال: لا يجوز، فقد قال بغير علم، وعطّل الباري عن صفاته، وسقط في هوة التجهم.
فالمسألة مع كونها من محارات العقول سهلة على من وفقه الله لفهمها، وفيها من إثبات عظمة الله تعالى وسعة ملكه وقِدم سلطانه ما تعجز العقول عن إدراكه.
والمقصود: أن هذه الأمور العظيمة والأصول الكبرى إنما جلّاها وفصّلها وتعمق في معقولها ومنقولها ونقد وقارن وفصّل بين الطوائف المختلفة فيها في كلياتها وجزئياتها العالِـم الفرد والعلَم الفذ (شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله) الذي قيضه الله لهذه الأمة.
والناس في هذه الأصول ثلاث طرق:
الأولى: المتكلمون الذين سلّموا ببعض أصول الفلسفة، وأصّلوا ذلك الأصل الأفسد في حدوث العالم، وأهملوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم في مؤلفاتهم عن الأقوال والفِرق لا يكادون يذكرون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أصلًا.
وعلى أيديهم حدثت الفتن الجسام كفتنة القول بخلق القرآن، وفتنة القول بوجوب التأويل، وغيرها.
وبقيتهم في المتأخرين: (الكوثري) وتلامذته.
والطائفة الثانية: الفلاسفة المثبتون لقِدم العالم، وعمدتهم هو نقض ما قرره أولئك، إذ شغبوا على أهل الكلام قائلين: كيف تحوّل الأمر من الامتناع الذاتي إلى الإمكان أو الوجوب الذاتي؟ وكيف ترجّح الفعل بلا مرجِّح؟ وغير ذلك من اللوازم، فليس لهم على الحقيقة حجة إلا فساد قول أولئك!!.
والطائفة الثالثة: المنتسبون للسنة والحديث بلا خبرة في العقليات، فكانوا فتنة للطائفتين السابقتين وغرضًا لسهام الفريقين، ومن تفريطهم دخلتا، وعلى أكتافهم تسلّقتا وهم الذين عبّر عنهم شيخ الإسلام بقوله: ((من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان... )) ، وبقاياهم في زماننا على ثلاثة أصناف:
1- من أعرض عن هذه المسائل بالكلية ــ مع أنها لا تزال تقرر في كثير من معاهد العلم الشرعي في أنحاء المعمورة ــ، وتعلل بالنهي عن الخوض في علم الكلام، وهذا حق، ولكن مسألة على هذا القدر من الأهمية بلوازمها واشتهار الكلام فيها لا ينبغي الجهل بها ولا تجاهلها، وترك أهل البدع يثلمون عِرض الشيخ ويفْرون أديمه ويفتنون العامة بل طلبة العلم من أهل السنة.
2- من تجرأ فخطّأ شيخ الإسلام وصرح برفض قوله وجعله مخالفًا لما اتفق عليه العلماء.
3- من ادعى أن هذا ليس مذهب شيخ الإسلام، وجعل ذلك تبرئة لساحته ودفاعًا عنه، فكابر عقول قراء الشيخ كلهم، ولزمه تخطئةُ من خالف الشيخ ومَن وافقه سواء، فـابن القيم مثلًا مخطئ حين وافق الشيخ على ما ليس مذهبه، والألباني مثلًا مخطئ حين خالف الشيخ فيما ليس مذهبه.
وصدق من قال: عدو عاقل خير من صديق جاهل.
ولا ريب أن المسألة بتفصيلاتها ولوازمها دقيقة المنزع وعرة المسلك بعيدة الغور، إلا أننا نذكر خلاصة ما يجب على المسلم ــ لا سيما طالب العلم ــ معرفته في هذا الشأن وهو هذه الأمور:
1- أن الله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء.
2- أن الله تعالى متصف بصفات الكمال أزلًا وأبدًا، ومنها كونه خالقًا لما يشاء متى شاء فعال لما يريد، فلم يأت عليه زمن كان معطلًا فيه عن الخلق أو الكلام أو غير ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله.
3- أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق له مربوب كائن بعد أن لم يكن.
وبعد هذا إن أمكنه أن يفهم الفرق بين النوع والآحاد وبين حكم الواحد وحكم المجموع فقد انكشف له أصل المسألة، وإن لم يفهمه فلا يضيره الوقوف بالساحل، وإنما الضير في التخبط بلا هدى، وأسوأ منه الجهل المركب الذي اشترك فيه من كفّروا الشيخ أو خطّأوه، ومن دافع عنه بنفي ما يعلم كل مطّلع على كتبه أنه من مشهور أقواله.
وقد كان من دواعي دهشتي وإعجابي أن تتصدى الباحثة الفاضلة لهذا الموضوع الذي قصرت عنه همم كثير من المتخصصين، وتُقدم عليه حين أحجموا، وتفهم ما عجز عن فهمه كثيرٌ من أهل السنة والبدعة على السواء، وتطلع بهذا المؤلف الذي يدل على عمق في التفكير وجلد على البحث العسير، مما يبشر لها بمستقبل علمي زاهر بإذن الله تعالى.
وإنني إذ أسجل شكري لها وإعجابي بعملها؛ لأوصيها بأن تفيد من ملاحظات العدو والصديق على السواء، وأن تجتهد في تحسين الأسلوب والصياغة ليتناسب مع ما لديها من عمق الفكرة وجودة الفهم ودقة الملاحظة، ولا أحسب هذا عليها صعبًا بإذن الله, والله الموفق للصواب، والمتكرم بالقبول.
والحمد لله رب العالمين أولًا وأخيرًا.