إن الفرق الواضح بين أهل السنة وبين المعتزلة هو أن أهل السنة يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، بينما المعتزلة لا يرون ذلك، فهذا فرق واضح، وليس عند أهل السنة والجماعة مشكلة في حكم صاحب الكبيرة أنه ناقص الإيمان، فإذا كان يشرب الخمر فلا شك أنه ناقص الإيمان، فلو جمع مع الخمر الزنا فإنه يكون أشد نقصاً، وحين يجمع مع ذلك عقوق الوالدين -والعياذ بالله- يكون أكثر نقصاً، وهكذا.
وكذلك إن كان في طاعة كأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيكون له في الدين درجة عظيمة، ولو زاد على ذلك أنه يحفظ كتاب الله ويتلوه آناء الليل وآناء النهار، فيكون له درجة أعظم، ولو زاد على ذلك أن جاهد في سبيل الله، فهذا درجته أعظم، وهكذا.
فالإيمان ينقسم إلى شعب كما في الحديث الصحيح: {الإيمان بضع وسبعون أو قال بضع وستون شعبة} فبقدر ما يحقق الإنسان من الشعب يكون إيمانه أكثر، وبقدر ما يفقد من هذه الشعب يفقد من الإيمان.
فعلى منهج أهل السنة والجماعة لا نقول: إن الأعمال شرط في كمال الإيمان، ولا في وجود أصله، وإنما نقول: الأعمال جزء من الإيمان، وبعضها جزء من أصله، وبعضها جزء من كماله الواجب، وبعضها جزء من كماله المستحب، بمعنى أن بعض الأعمال شرط في أصل الإيمان، وبعض الأعمال من الكمال الواجب، وبعضها من الكمال المستحب، ففي أعمال الجوارح مما هو من شعب الإيمان: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهي من أصل الإيمان، كما أجمع السلف أيضاً على أن الصلاة من أصل الإيمان، فتارك الصلاة نقول عنه: إنه ترك أصل الإيمان، كما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما من ترك واجباً من الواجبات في الصلاة أو في الحج أو ترك أي عمل من الأعمال الواجبة الكثيرة يعني كترك الإحسان إلى الجار، وترك بر الوالدين، فهذا نقول عنه: إنه لا ينتفي عنه أصل الإيمان، لكن نقول: ينتفي عنه كمال الإيمان، والمقصود كماله الواجب.
فلو ضربنا كل الأمثلة في الصلاة، فنقول: من ترك أصل الصلاة، فهذا ترك أصل الإيمان، ومن ترك صلاة الجماعة، فقد ترك الكمال الواجب؛ لأنه واجب، أما من ترك بعض النوافل، وبعض السنن المستحبة فقد ترك الكمال المستحب.
إذن: أهل السنة منهجهم في الإيمان منضبط وواضح والحمد لله، ولا يؤثر مثل هذا القول الذي قال به الإمام الحافظ رحمه الله على منزلته وعلمه؛ لأنه:
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فمثل هذا الكتاب العظيم والذي جمع فيه من جميع فنون العلوم: من علم العربية، إلى علم التاريخ والسير، إلى الفقه بجميع أنواعه وأحكامه، إلى الرجال والجرح والتعديل، وعلم المصطلح، وعلوم القرآن، فقد جمع الحافظ في فتح الباري علوماً عظيمة، فلا يضره رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه أنه أخطأ في متابعته لبعض الأئمة، وهم أئمة ثقات جبال في العلم، لكن جل من لا يسهو.
ولو رجعنا إلى أول كتاب الإيمان ونظرنا إلى ما قاله الحافظ رحمه الله عن الإيمان في موضعه وما قاله هنا، فلابد لنا من تقييد كلامه رحمه الله، يعني في مسألة زيادته ونقصه، فـأهل السنة والجماعة بخلافه فالإيمان عندهم يزيد وينقص، والأعمال تتفاوت، والناس يتفاوتون فيه بحسب ما يأتون من شعب الإيمان وما يتركون، ولذلك يمكن تطبيق هذه القاعدة على حديث الشعب: {أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فالحديث اشتمل على ثلاثة أمثلة، فالذي لا يأتي بالشهادة قد أخل بأصل الإيمان، والذي ليس عنده حياء قد أخل بواجبات الإيمان، والذي لم يمط الأذى عن الطريق ترك الكمال المستحب، كما يفهم قول الفقهاء حين يتكلمون عن الغسل الكامل أو الوضوء الكامل، والغسل المجزئ أو الوضوء المجزئ، فماذا يقصدون بالكامل؟ نقول: الفقهاء دائماً يعنون الكمال المستحب، وماذا يقصدون بالصلاة الكاملة؟ أي الصلاة التي يؤتى بأركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها.
لكن في عرف المتكلمين في الإيمان أو أصحاب العقيدة أو عندما نتكلم في أبواب الإيمان، فعند إطلاق الكمال، فإنه يطلق باعتبارين: باعتبار الكمال الواجب الذي نقصه يُعد معصية وذنباً يعاقب عليه، والكمال المستحب الذي نقصه يُعد تفويتاً للأفضلية.
قال الحافظ رحمه الله كأنه يستدرك: "ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيداً بما إذا ندم على وقوع المعصية"، وهو يقصد من وقع في الذنب غير مصر عليه "وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك" يعني: لم يقع منه الندم ولم يقم عليه الحد "فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه حتى يسلب منه ذلك، نسأل الله العفو والعافية".