يقول رحمه الله: "وإذا كان الأمر كذلك، فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة، ولا بالعكس، ولهذا أكثر
السلف يأمرون بقتل الداعي بالبدعة الذي يضل الناس لأجل إفساده الدين، سواء قالوا: هو كافر أو ليس بكافر".
انظروا فقه
السلف وفهم
السلف؛ لم يتجادلوا كثيراً في
الجعد هل هو كافر أو ليس بكافر.. أما نحن الآن -مع الأسف- فتجد أكثر خلافنا هل فلان كافر أم ليس بكافر.
لقد كان
السلف الصالح رضي الله عنهم يعلمون أن أمور العباد إلى الله، وحقيقة العقوبة إنما هي في الآخرة، لكن إن وجد في الدنيا رجل ابتدع بدعة تفسد الدين، وجب أن يقتل؛ فأجمعوا على هذا القدر، ومنهم من أطلق الكفر، ومنهم من لم يطلقه، والمقصود أنهم لم يتجادلوا، بل القضية والنظر الأساسي عند
السلف هو أن من كان في وجوده أو في بقائه خطر على الدين، وفي قتله مصلحة للدين، فإنه يقتل، أما كونه قتل كافراً أو غير ذلك، فذلك أمر ثانوي، فقد كان نظرهم إلى أصل القضية، ولذلك لا يمنع أننا قد نعذر أحداً من الناس، لكن لا يعني ذلك أننا لا نعاقبه، بل قد نعاقبه في الدنيا، ونحن نعلم أنه معذور، ونعلم أنه غير مؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى حسب ما يظهر لنا من نيته ومن عمله.
قال: "وإذا عرف هذا، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين، مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة.
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
يقول رحمه الله: "وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله المسئول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه أعلم".
وهذا الفصل الطويل في المجلد الثاني عشر
مجموع الفتاوى من صفحة (479-501) يوضح ويجلي هذه المسألة.
ومن أهم النقاط التي نحب أن نركز عليها أن المبتدع يجوز أن يقتل تعزيراً ولو لم نحكم بردته؛ لأن هناك مع الأسف من يثير هذه المسألة ويقول: (لا يقتل) بناءً على حرية الفكر، وأن الإسلام أتى بحرية الرأي.
فنقول: نعم الإسلام جاء بحرية الاجتهاد؛ فيجوز أن يجتهد الإنسان في ضوء الأدلة والنصوص، لكن الاجتهاد قد يكون خطأً، وقد يكون المجتهد مأجوراً عليه عند الله، ولكنه في الدنيا يعاقب.
وغاية ما عندهم أن يقولوا: إن هذا الرجل وقع في البدعة عن اجتهاد، فنقول: إن كان مجتهداً مخطئاً، فذلك يجعله غير معاقب عند الله، لكن نحن في الدنيا لابد أن نقيم الحد عليه وأن نعاقبه.
فمن أنكر شيئاً من أصول العقائد والأحكام، ومن قال: إن القرآن مخلوق، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، ومن أنكر القدر، ومن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أو كفرهم، أو أتى بأي بدعة من هذه البدع، فإنه يقتل تعزيراً دفعاً لبدعته بغض النظر عن الكفر وعدمه؛ يقتل من جهة النظر إلى مصلحة الدين واستقامة المسلمين.
وعلى هذا قتل الجعد بن درهم، وقتل غيلان الدمشقي لما أنكر القدر، وكثير غيره من أهل البدع، ثم جاء الحلاج وأمثاله، فأجمعت الأمة على قتلهم.
وهذا أصل أحببناً أن ننبه عليه؛ لأنه يوجد الآن من يحاول أن ينكره، ويقول: كل هؤلاء ما قتلوا إلا لأغراض سياسية، فلو كانت أغراضاً سياسية من الحكام، فهل حين كفرهم العلماء أو استحسنوا قتلهم -هل كان ذلك لأغراض سياسية؟!
إن هؤلاء السلف أو علماء الأمة حين رضوا بقتلهم وأثنوا على فاعله جعلوا ذلك من باب العقوبة الشرعية، والله تبارك وتعالى أعلم بالنيات، والظاهر من حال من قتلهم أنه إنما قتلهم من أجل المصلحة الدينية.