يقول شيخ الإسلام: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين".
وهذا من الحكمة في الدعوة، ولكن ما أكثر ما تُظلم هذه الحكمة! حتى إذا جئت ونصحت أحداً من الناس، قالوا: لابد أن تكون النصيحة بالحكمة، والحكمة عند بعض الناس أن تسكت ولا تنكر، وليس الأمر كما يظنون، بل الحكمة أن تتخذ الوسيلة المناسبة، والموقف الصحيح من المنكر، حسبما يقتضيه الحال وفقاً للدليل.
يقول رحمه الله: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلَّتهم وكثرتهم".
إذا كان الهاجر قوياً، كأن يكون عالماً معتبراً له شأن في المجتمع وقال: هجرت فلاناً ولا أسلم عليه؛ لأن فيه بدعة أو لأن فيه معصية، فهذا ليس مثل من يهجره إنسان لا يبالى به.
  1. اختلاف الهجر بقوة وضعف الهاجر والمهجور

    سُئل الإمام أحمد عن هجر من يقول: إن القرآن مخلوق؟ قال: إن أهل خراسان لا يقوونهم.
    يعني: نحن في بغداد نستطيع أن نهجر من يقول إن القرآن مخلوق، لكن أهل السنة في خراسان لا يقدرون؛ لأن البدعة غلبت عليها، والأهواء استحكمت فيها.
    وأيضاً: لما سُئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن القدرية، كما قال شيخ الإسلام : "لما سُئل عن القدرية وعن الحديث عنهم قال: لو تركنا الحديث عن القدرية لتركنا عامة حديث أهل البصرة ". يعني أن بدعة القدر انتشرت فيهم، فإن كان كل من تلبَّس ببدعة القدر ترك حديثه ترك عامة حديث أهل البصرة ؛ لأن البصرة فشا فيها القدر والتصوف؛ والغلو في العبادة والزهد، والكوفة فشا فيها الإرجاء، ولو قلنا: لا نروي عن القدرية، لتركنا عامة رواية أهل البصرة، وإن قلنا: لا يروى عن من تلبس ببدعة المرجئة، فإننا لن نروي عن عامة أهل الكوفة، ولذلك وضع علماء الحديث معياراً منضبطاً لقبول الرواية، وهو الصدق، لذلك روي عن الخوارج، وكان من رواة البخاري وغيره بعض الخوارج كـعمران بن حطان وغيره؛ لأن الخوارج لا يكذبون، والكذب عندهم كفر، وليس مجرد معصية، وبالعكس تُركت الرواية عن الروافض، فلا تجد على الإطلاق رافضياً داعيةً من رواة الصحيح، لا من قيل عنه: فيه تشيُّع، والروافض لا تجد أحداً زكَّاهم أو وثَّقهم أو روى عنهم أحد ممن يشترط الصحة في كتابه؛ لأنهم يستحلون الكذب.
  2. اختلاف الهجر بانزجار المهجور وعدمه

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن المقصود به" يعني: الهجر "زجر المهجور وتأديبه"، أي إنما نهجر من يهجر من مبتدع وعاص لكي نزجره ونؤدبه، ولكي ترجع العامة عن مثل حاله، وحتى لا يقلِّده الناس ويتَّبعوه.
    يقول رحمه الله: "فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشرّ وخفيته كان مشروعاً".
    أي: إذا كان هجر هذا الإنسان يؤدي إلى تخفيف الشر أو إلى إضعافه فعلناه.
    قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة الهجر راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر"
    ومثال ذلك: لو أن طالباً طلب العلم، ثم ذهب إلى أهله في بادية بعيدة، أو ذهب إلى أهله في بلدٍ من البلدان التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع، فلنهجرهم، فهجر أمه وأباه، فإنه لن يدع أحداً إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ورضي عنه وأرضاه: "بل يكون التأليف لبعض الناس، أنفع من الهجر" أي: بأن تتألفه على الحق بحسب ما فيه من الخير، ومن العلم والفهم.