قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: {هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!}" وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالمٌ بكل شيءٍ يكتمه الناس كافرة" والقضية عندنا هي: أن بعض الناس قد يعتقدون الكفر، أو يقولون الكفر، وهذا لا يعني تكفير قائله أو معتقده إلا إذا قامت عليه الحجة وبلغته الدعوة.
يقول: "ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: أن الإقرار بأن الله تبارك وتعالى بكل شيء عليم؛ هو من أصول الإيمان، ولكن إنما يثبت في حق المعيَّن بعد قيام الحجة عليه.
قال رحمه الله: "وإنكار علمه بكل شيء، كإنكار قدرته على كل شيء" أي: أن ما خفي على عائشة هو مثل ما خفي على الرجل المذكور في الحديث.
قال: "هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب"، أي: هذا مع أن عائشة رضي الله عنها لم تكن خالية الذهن من الإيمان تماماً، بل كان عندها علم ودين وخير، ولذلك فهي مؤاخذة، فكانت تستحق اللوم على الذنب لو كان هذا الجهل ذنباً.
قال: "ولهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟}. يعني: عندها علم، وتعلم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يحيفا عليها، فهي مؤاخذة وتستحق اللوم، بمعنى: أن من لم يبلغه شيء من الدين ولا يدخل تحت المؤاخذة أصلاً، فهو أولى بأن يُعذر ولا يُعاقب على ما لم يبلغه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع.
فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائلِه لا يُحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهكذا في كل قولٍ كفري: لا ُيحكم على قائله بالكفر حتى تُقام عليه الحجة التي يكفر تاركها" وقيد الحجة هنا بأنها التي يكفر تاركها، فكل إنسان بحسبه، ولا يشترط معنىً معيناً للحجة، ولا مقداراً معيناً؛ لأن من الناس من يكفي في إقامة الحجة عليه موعظة أو كلمة أو تذكير، ومن الناس من لا يكفي فيه إلا سنوات أو شهور من التعليم؛ لضحالة علمه وقلة فهمه وفرط جهله.
وكذلك الذي يقيم الحجة، فمن الناس من يستطيع أن يقيم الحجة في مجلس واحد، ومن الناس من لا يقيمها وإن ظن أنه قد أقامها، وهذه أمور نسبية بحسب الأحوال والأشخاص، سواء في المقيم للحجة أو المتلقِّي لها، ولذلك يُراعى كل إنسان بحسبه، والله تعالى هو المطلع على الأحوال والسرائر.
ثم يرد شيخ الإسلام على من يقول بسقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول: "ودلائل فساد هذا القول كثيرةٌ في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشايخها، لا يُحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت".
يعني: بهذا القول قول من قالوا: إنهم إذا تجوهروا سقطت عنهم التكاليف، وهو القول سبق أن شرحناه فيما مضى.