على أية حال لو تجاوزنا هذا إلى الأب الثاني للبشرية, فهناك نجد أن الأمر قد اتخذ شكل المأساة أو الكارثة في تاريخ الأنبياء والنبوة, والنظر إلى هؤلاء الخلق المصطفين الكرام، فإن نوحاً عليه السلام الذي هو الأب الثاني للبشرية، والذي كرمه الله تبارك وتعالى وجعله أول الرسل الكرام، والذي يحتل في العقيدة الإسلامية مكاناً مرموقاً عظيماً نظراً لهذه المكانة، وهذه المكانة تمتد إلى يوم القيامة كما جاء في حديث الشفاعة الكبرى؛ عندما يأتي إليه الناس ويقولون له: يا نوح أنت أول رسول أرسله الله تبارك وتعالى ويطلبون منه أن يشفع لهم، ثم تكون الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم.
فمنزلة نوح عليه السلام منزلة عظيمة في التصور العقدي الإيماني الصحيح؛ ولذلك نجد أن الطفل المسلم وهو لا يزال في أولى مراحله الدراسية يقرأ سورة نوح عليه السلام وأولها (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ))[نوح:1], بمعنى: أن أول ما يستشعره الطفل من عظمة هذا النبي الكريم, وهذا الرجل العظيم؛ أنه رسول أرسله الله تبارك وتعالى إلى قومه, هذا المعنى غامض في التوراة, أي: بمعنى أنه نبي، والحديث عنه يأتي وكأنه رجل ذو شأن، ولكن الإرسال والنبوة والنذارة لقومه والتحذير من الشرك لا يكون بمثل المستوى القرآني؛ بل هو بعيد عن ذلك كثيراً.
ليس هذا فقط وإنما يأتي بعد ذلك ما قلنا: إنه الكارثة أو الطامة الكبرى، وهو ما جاء في التكوين في الفصل التاسع من السفر؛ وهو أن نوحاً عليه السلام -وأنا الآن أقرأ بالنص-: كان نوح أول فلاح وغرس كَرْماً, وفي بعض الترجمات: وابتدأ نوح يكون فلاحاً.
ثم يقول كاتب هذا الكلام والمحرِّف لكلام الله تعالى: وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى في خيمته؛ فرأى حام ابن نوح أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما خارجاً فأخذ سام و يافث ثوباً وألقياه على أكتافهما ومشياً إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما، وكان وجهاهما إلى الخلف، فما رأيا عورة أبيهما، فلما أفاق نوح من سكره -كما يقول الكاتب الخبيث- علم ما فعل به ابنه فقال: ملعون كنعان! وكنعان حتى الآن غير موجود، فالثلاثة هم الموجودون: حام و سام و يافث ولكن اللعنة على كنعان لماذا؟! نرى لماذا الآن.
قال: ملعون كنعان عبداً ذليلاً يكون لأخوته, وفي بعض الترجمات: عبد العبيد يكون لأخوته, وقال: تبارك الرب إله سام ويكون كنعان لعبداً لـسام .. إلى آخره.
هذا الخبر الذي حقيقة تقشعر منه أبدان المؤمنين الذين يقدرون الله تبارك وتعالى حق قدره، وأنبياء الله تبارك وتعالى حق قدرهم وتعزيرهم وتوقيرهم, ويعظمون ما عظم الله، ويعظمون شعائر الله، هذا الكلام الموجود بهذا النص لم يستطع أحد من شرّاح التكوين أو الخليقة الذين شرحوا هذا السفر الأول من العهد القديم أن ينفوه، أو أن يقولوا: إن هذا مضاف أو مقحم ليس من كتاب الله، إلا عندما بدأت مدرسة النقد التاريخي في القرون المتأخرة -كما شرحنا من قبل- مجمعون وإلى الآن لا يزالون يكتبون وبعضهم من العرب -الذين شرحوا سفر التكوين- بعضهم من اليعاقبة, بعضهم من النساطرة, بعضهم من الكاثوليك .. إلى آخره.
الكل يجمع على أن هذه القصة حقيقة, وأنها وقعت، ويجعلونها من مآثر الكتاب، يقولون: إن الكتاب المقدس كما أنه يذكر ما يعطيه الله تعالى من الكرامات أو الخوارق أو المعجزات فإنه أيضاً واقعي ينقل ما يفعله القديسون وما يفعله الصالحون بواقعية ولا ينفي ذلك عنهم.
لكن هذا الكلام في الحقيقة إذا تأملناه ونظرنا إليه بعين البصيرة الإيمانية, وما ذكره الله تبارك وتعالى من أخبارهم في كتبه التي لم تحرف ولم تبدل، فإننا نجزم قطعاً أن هذا لا يمكن أن يصدر عن نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
نحن لا يمكن أن نتخيل ذلك أو أن نؤمن به أو نصدقه، بمعنى: أننا لا نتردد في أن ننفي وقوع ذلك، وإنما ننتقل إلى القضية الأخرى المهمة؛ وهي: إذاً لماذا كُتب؟! أو لماذا أضيف مثل هذا الكلام إلى نبي عظيم من أولي العزم؟!
القضية -كما أشرنا قبل قليل- هي في كلمة كنعان أو في اسم كنعان ، الشعوب المخالفة لليهود وبالذات نخص بالذكر الكنعانيين؛ لأنهم هم الشعب الذي فيما بعد قرون وبعد آلاف السنين من هذه الحكاية سوف نجد أنهم يكونون أعداء, وأنهم يتقاتلون مع بني إسرائيل، فمن هنا يمهد هذا اليهودي الخبيث الذي أضاف هذه الحكاية للعنة كنعان وبني كنعان, وأنهم فعلاً أشرار، -وهذا ما يعترف به الشراح كما ذكرنا قبل قليل- ويقول الشراح: إن هذا تمهيد من الله تعالى ليبين لكل بني آدم من الأب الثاني نوح عليه السلام الذي تفرقت منه بقية الأمم والشعوب؛ أن الكنعانيين أمة ملعونة شريرة؛ ولذلك فإن العبرانيين عندما يقاتلونهم على يد يوشع فهم في الحقيقة على الحق، ويستحق أولئك أن يطردوا، وبعد ذلك نجد في أيام إبراهيم عليه السلام أن الله تعالى يعده بكل أرض كنعان ، فيأتي التمهيد لوعد الله تعالى المزعوم عندهم, والذي قد يكون حقيقة؛ ولكن للمؤمنين، فالتمهيد لهذا الوعد لإبراهيم, وكذلك التمهيد لانتصار أو لاستحقاق الكنعانيين للإبادة التي سوف يؤمر بها يوشع -كما سوف نرى- شكل من أشكال الإبادة العجيبة الغريبة، يأتي وكأنما هو بجناية الأب القديم الذي لم يكن كنعان قد ولد بعد، ولكن لأن أباه الذي رأى عورة أبيه نوح؛ لأنه رآه ولأنه لم يستره بخلاف أخويه وما فعلا؛ فلذلك يستحق ابن هذا الابن أن يلعن، وأن يحمل اللعنة، وأن تظل اللعنة حالة به إلى أن يأتي الأحفاد وإلى آخر الزمان.
بمعنى آخر: أننا نشاهد لوناً من العنصرية البغيضة المقيتة في النظر إلى هذه الشعوب، والكنعانيين ما هم إلا جزء أو اسم من جملة شعوب ملعونة، يلعنها كاتب التوراة جميعاً, هكذا ملعونة مطرودة من رحمة الله تبارك وتعالى، ويحاول أن يدنسها لكي تبقى الخلاصة والصفوة النقية أو شعب الله المختار هم بنو إسرائيل فقط!
بهذا المستوى العنصري ينبغي أن يُنظر إلى هذه القصة، وأن تُعلم الأسباب النفسية لدى الشخصية أو الكاتب اليهودي الذي أضاف هذه العبارات وظل اليهود متمسكين بها.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع