فذكر شيخ الإسلام أن من تأول الحديث، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، وسيرد رحمه الله على من تأول الحديث من وجوه:
  1. الترتيب بين الجملتين بالفاء يدل على السببية

    الوجه الأول: قال: "فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا متُ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذِكْر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنها سبب لها" فالجملة الثانية هي سبب أمره بالحرق وغيره مما ذكر في الجملة الأولى. يقول: "فهو فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته إذا لم يفعل، لم يكن في ذلك فائدة". أي أنه إذا كان مقراً بأن الله يقدر على هذا وهذا فما الفائدة؟! لكن هو يرى أنه لو دفن بجثته فسيقدر الله على أن يبعثه، فإذا أحرق وسحق فلن يقدر الله عليه، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في قدرة الله على إعادة الإنسان. فالوجه الأول أن التأويل يتنافى مع لفظ الحديث في الترتيب والتعقيب.
  2. المغايرة بين تفريقه وأن يقدر الله عليه

    الوجه الثاني: قال: "ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب". أي: إذا كان (لئن قدر عليَّ) بمعنى: ضيق، أو بمعنى: قضى وحكم علي بالعذاب، فذلك هو العذاب نفسه. قال: "فقد جعل تفريقه مغايراً لأن يقدر الرب عليه، ولهذا قال: فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني، فلا يكون الشرط هو الجزاء، فهو يقول: أنا أوصي بتفريقي حتى لا يعذبني" وعلى قولهم يكون كأنه قال: لئن عذبني الله ليعذبني، وليس هذا مراداً.
  3. لو كان معنى (قدَر) قدَّر أو ضيق لما لجأ إلى كلمات بعيدة وعامة

    الوجه الثالث: يقول: "ولأنه لو كان مراده ذلك لقال: فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني". لو كان قصده ما قيل إنه بمعنى ضيَّق أو بمعنى قدَّر عليَّ العذاب، لقال: يا أبنائي افعلوا هذا، فوالله لئن جازاني ربي ليعذبني عذاباً شديداً، ولم يقل: لئن قدر علي، فتكون القدرة والتقدير خارجين عن المقصود، "كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك" يعني فالناس عادةً لا يلجئون إلى خطاب بعيد المعنى مع إمكان الخطاب بخطاب معروف واضح، وهذا الرجل لم يكن في مقام بلاغة، حتى يأتي بالمعاني البعيدة، بل في مقام موت، يريد أن يقول لأولاده شيئاً واضحاً سهلاً يفهمونه.
  4. لفظ (قَدِرَ) بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة

    قال: "ولأن لفظ (قَدرَ) بمعنى ضيّق لا أصل له في اللغة".
    شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبحرُّه وتوسُّعه في لغة العرب معروف، فقد جاء إليه مرة أبو حيان، بـكتاب سيبويه، وبدأ يفتخر به على شيخ الإسلام، فقال له شيخ الإسلام : اسكت، فإن في كتاب سيبويه ثمانين خطأً.
    فقد كان رحمه الله حجة في اللغة.
    يقول: "ومن استشهد على ذلك"، أي على أن قدَّر بمعنى: ضيق، "بقوله: ((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ))[سبأ:11]، وقوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ))[الطلاق:7] فقد استشهد بما لا يَشْهَد له فإن الله قال: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ))[الطلاق:7]، وكما قال عز وجل: ((وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ))[سبأ:35-36]، وقال في آية أخرى: ((وَيَقْدِرُ لَهُ))[العنكبوت:62].
    يقول شيخ الإسلام: يقدر هنا ليس معناها: التضييق، فليس المعنى: ومن ضُيِّق عليه رزقه، يقول: "فإن اللفظ كان في قوله: ((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ))[سبأ:11] معناه: اجعل ذلك بقدْر ولا تزد ولا تنقص" أي: وليس معنى ((وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ))[سبأ:11]: ضيِّق؛ لأنهم قد يقولون: تضييق السرد أدعى إلى الإحكام، لأنه عندما يكون الدرع مخلخلاً لا يكون كما إذا كان مشتبكاً محكماً، وعليه فالتقدير يكون بمعنى: التضييق، هذه وجهة نظرهم.
    شيخ الإسلام رحمه الله يقول: معنى قدِّر: اجعله بقَدْر معين ولا تزد ولا تنقص.
    أي: التزم مقداراً معيناً، لا تزد عليه ولا تنقص منه، وذلك أدعى إلى الإحكام والضبط.
    يقول: "وقوله: ((وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ))[الطلاق:7]: أي: جُعل رزقه بقدر ما يكفيه من غير فضل، بحيث لو أنفق منه لاختل" فهذا دخله على قدْر ما يقيم نفسه وأولاده، ولو كان أقل من ذلك لأصبح من غير أهل الكفاية، وصار مسكيناً أو فقيراً فيعْطَى من الزكاة.
    يقول: "إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش".
    يعني: بمقدار لو نقص عن هذا المقدار لم يعش، فالله سبحانه وتعالى يرزق العباد جميعاً؛ فيرزق بعضهم رزقاً واسعاً، ويرزق البعض الآخر بحيث يكون على أدنى الكفاية، كما في قوله: ((قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر))[سبأ:36].
  5. تأويل لفظ (قدر) بمعنى قضى غير صحيح

    الوجه الخامس: قال: "وأما قَدر بمعنى قدَّر أي: أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل: إن قدَّر عليّ ربي العذاب". فالموضوع ليس له علاقة بالقَدَر، لو كان كذلك لقال الرجل: لئن قدَّر عليَّ ربي العذاب ليعذبني.. يقول: "بل قال: لئن قَدِر عليَّ ربي. والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال: لئن قضى الله عليّ؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره". أي: ولا يصلح أن يقول: لئن قضى الله عليّ؛ لأن القضاء قد كتب، وهو يريد شيئاً يتخلص منه، فيقول: (لئن قَدر) لأنه لا يدري: هل يقدر أو لا يقدر؟ أما أنه قضى وقدَّر فيما مضى فهذا أمر قد فرِغ منه. يقول: "ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فَعَله مانعاً من ذلك في ظنه". قال: "ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة، ليس هذا موضع بسطها".