يبقى قضية الخطيئة -يعني: هنا نخرج من دائرة الفكر اللاديني؛ لأنه لا يرى الخطيئة؛ لكنه يتفق مع الفكر الكتابي في آثارها- إذاً على فكر وعلى عقيدة أهل الكتاب عند
اليهود بشكل غير واضح؛ لكن اتضحت بشكل أكثر في
النصرانية المحرفة -نصرانية
بولس- أن الإنسان ارتكب الخطيئة فاستحق العقوبة الدائمة! طبعاً في
التوراة نفسها أن الله تعالى عاقب آدم وعاقب الحية وعاقب المرأة بآلام الحيض والنفاس، كل ذلك عقوبة على الخطيئة وأنهما نزلا وشقيا.. إلى آخره, حتى هذه أيضاً فيها دلالة عقوبة؛ لكن لم تكن بالشكل الذي جاء به
بولس؛ وهو أن الإنسان وجميع البشرية وحتى الأنبياء ظلوا يرسفون في أغلال الخطيئة في النكد في لعنة الخطيئة، -كما يقول
بولس- حتى رأى الله تعالى أن يفديهم بابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- فجعلوا لله تعالى ولداً وابناً ليفتدي هؤلاء القوم من الخطيئة.قبل أن نرد على هذا في الإسلام نحب أن نوضح بعض الأمور عرضاً، وهي من أين أخذ
بولس هذه العقيدة؟ نحن نجد أن هناك عقيدة قديمة عند الجاهلين وعند المشركين في كل الأمم؛ وهي أنهم يتقربون إلى أصنامهم وإلى آلهتهم بقتل أبنائهم، فتكررت هذه العقيدة منذ القدم؛ أن قتل الابن هو أفضل قربان يتقرب به، وأصبحت مذمة وعاراً وفضيحة على بني إسرائيل أنهم فعلوا ذلك، وأكثر من نبي -كما في أسفار الأنبياء- عاتب بني إسرائيل وأنَّبهم كيف تذبحون أبناءكم لبعل أو مردوخ, أو ما أشبه ذلك؛ لمنحوتات الكنعانيين وغير الكنعانيين، لمعبودات الوثنيين وأنتم لديكم الكتاب ولديكم
التوراة ولديكم العلم؟! هذا أمر أخذه عليهم أنبياؤهم، وأنكروه بأمر الله تبارك وتعالى أنكم تفعلونه يا بني إسرائيل.لكن هو في العقائد الشرقية -كما يسميها الغربيون- فأكثر الفكر الغربي شرقي، وأكثر الحضارة اليونانية والرومانية من أصول شرقية حتى في الأديان, وقد يأتي لهذا إيضاح إن شاء الله فيما بعد.المهم أنه ترسخ في العقائد الإيرانية القديمة هذا بشكل واضح جداً، ومن هنا نشأ في
الميثرائية -وهي ديانة محرفة عن
المجوسية أو عن
الزرادشتية - ألا بد من ضحية ولا بد من قربان ولا بد من سفك دم لكي يرضى الرب.إلى هنا نقول: هذا شرك عظيم, والله تعالى يقول في كتابه: ((
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ))[الأنعام:137], يعني: أمر ما شرعه الله ونفاه، وجعله من تزيين المشركين والشياطين، هو خطير جداً؛ لكن الأعظم من ذلك أن هذه الأديان شبهت الله تعالى بخلقه! وقاست الله تعالى على الخلق، وجعلت أن الله سبحانه وتعالى لكي يكفر عن الخلق فإنه يذبح ابنه فدية لهم -تعالى الله عن ذلك- أو يصلب ابنه من أجلهم، بناء على ماذا؟ هنا اختلقوا فكرة الخطيئة الأصلية! ما هي الخطيئة؟!أنه لما أكل آدم من الشجرة بقيت الخطيئة في ذريته، والله تعالى -تعالى الله عن ذلك, هذا ما يقولون ولا يليق بالله تعالى- كأنه يبحث عن حل ليخلص الإنسان فلم يرحمه إلا بعد هذه الألوف من السنين بأن يصلب ابنه ليفدي به الخليقة!هذا كله كلام ليس عليه أي دليل من الكتب المحرفة فضلاً عن غير ذلك, فالكتب المحرفة نفسها ليس فيها دليل على هذا، لا في
التوراة ولا حتى في
الإنجيل وإنما هذا الكلام من عقيدة
بولس الذي كان اسمه
شاؤول اليهودي الروماني الذي غير دين المسيح عليه الصلاة والسلام -ولعل هذا يأتي إيضاحه في حلقة قادمة إن شاء الله- بناء على عقيدة
بولس هذه انحرفت
النصرانية جميعاً, وأصبحت هذه هي عقيدتها. إذاً: فلننظر هل في الإسلام شيء من هذا؟ لا يوجد على الإطلاق.من تكريم الله سبحانه وتعالى لآدم أيضاً -هذا من التكريم لكننا أخرناه حتى تأتي مناسبته- أنه بعد أن أخطأ تاب عليه وألهمه كلمات؛ ((
قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[الأعراف:23], ((
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ))[البقرة:37]؛ فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطاه هذه الكلمات وعلمه إياها فقالها فتاب عليه، وبعد أن عصى اجتباه وتاب عليه وهدى، وانتهى الموضوع.لكن بقي هناك شيء؛ وهو أنه من أجل الامتحان والابتلاء؛ أن يبتلي الله عز وجل الإنسان والإرادة الإنسانية التي أودعها فيه بأن يعيش على هذه الأرض أخرج من الجنة؛ لكن على أساس أنه تاب وعلى أساس الابتلاء و ((
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ))[البقرة:38]؛ فالجميع آدم عليه السلام و
حواء والعدو الذي وسوس إليهما, وليس الحية؛ بل هو العدو الشيطان، هو الذي وسوس إليهما ولا يزال يوسوس إلي وإليك وإلى كل مسلم وإلى كل إنسان بالمعصية؛ فالامتحان واحد والابتلاء واحد, هؤلاء يهبطون جمعياً, وعليهم أن يتبعوا هدى الله سبحانه وتعالى الذي سوف ينزل عليهم, ومن فعل غير ذلك فإنه يعاقب ((
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ))[طه:123].
إذاً من أجل الابتلاء فقط أُنزل الإنسان إلى الأرض، وليس من أجل أنه أخطأ ووقع في الخطيئة ولم يتب عليه ولم يغفرها له, والدليل على ذلك الحديث الصحيح -وهو مما يختص به الإسلام وليس له ذكر في الكتب المتقدمة- (أن الله سبحانه وتعالى هناك في الملأ الأعلى في السماء قابل موسى عليه السلام آدم -قابل بينهما؛ فآدم كان في موضع المسئول وموسى هو السائل، ومعروف عن موسى عليهم جميعاً الصلاة السلام أنه شديد في أمر الله وقوي في الحق حتى مع أبيه آدم- يقول له: أنت خيبتنا وأخرجتنا من الجنة إلى الأرض! -فهو يعاتبه على هذا العمل؛ فأجابه آدم عليه السلام إجابة شافية كافية- أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى بكلامه وأعطاك التوراة ؟ قال: نعم. قال: ألا تجد فيها -يعني في التوراة- أن لله كتب ذلك علي قبل أن أخلق؟ قال: بلى. -يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: فحج آدم موسى فحج آدم موسى). عدة روايات رواها البخاري وغيره.يعني: الإنكار من موسى عليه السلام لآدم أنه مع أن الله اصطفاك وخلقك بيده وأسجد لك ملائكته أخرجتنا وخيبتنا وأنزلتنا إلى الأرض. فكان الجواب من آدم عليه السلام: أنت يا موسى اصطفاك وأعطاك التوراة , وتجد فيها أنني سأنزل الأرض, قال: (( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ))[البقرة:30], لا شك أنه كان في التوراة شيء قريب من هذا قبل أن تحرف؛ فالمقصود أن جواب آدم عليه السلام كان كافياً، ومن هنا يقول العلماء: إن القدر يحتج به على المصائب، القدر حجة على أي مصيبة تقع عليك تقول: هذا قدر الله والحمد الله وإنا لله وإنا إليه راجعون، حجة؛ لكن لا على الذنب؛ لا تقتل أحداً أو تضربه وتسلب ماله وتقول: هذا قدر! نعم هو قدر كتبه الله؛ لكن أنت مسئول عنه، أما الذي لا يد لك فيه فهذا نعم يحتج به في المصائب التي تقع على الإنسان.فهذه مصيبة عظمى أن يُخرج من الجنة! ما كان يريدها آدم عليه السلام؛ لكن الله خلقه للأرض ولم يخلقه للجنة؛ فجعل سبب الإنزال والخروج والإهباط هو أن يطيع عدوه وهو إبليس وأمانيه ووساوسه وزخارفه بأن هذه (( شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ))[طه:120], يداعب هذه العواطف التي دائماً البشر يتطلع إليها، والبشر بطبيعته -وهذا مما يدل فعلاً على اختيار الله في الإرادة البشرية- يبحث عن الشيء المحروم منه. خذ مثالاً على ذلك: لو كانت عندك مكتبة كبيرة وقلت لأولادك: اقرءوا في المكتبة هذه ما شئتم، إلا هذا الكتاب أو مجموعة كتب في هذا الركن لا تقرءوها.. وخرجت! أول ما يلتفت أذهان الأولاد إلى هذا الركن ماذا به؟ ولماذا؟لو أتيت واحداً وقلت له مثلاً: هذا سوق كبير جداً مليء بالخضار والفواكه وجميع أنواع العصير، اشرب كل شيء إلا قارورة خمر مثلاً أو تالفة تخمرت، إذا انصرفت كأنه أول ما يندفع شعوره إلى لماذا هذه؟ مع أنك أبحت له كل شيء غير ذلك. هذه الأمثلة تقرب كيف أن الفطرة البشرية ممتحنة، وبما أن الإرادة البشرية مبتلاة فإنها تقع في مثل هذا، ومن هنا وقع آدم عليه السلام؛ لكن سرعان ما تاب فتاب الله تبارك وتعالى عليه.