ما زلنا في موضوع الحكم على المعين بالتكفير أو التضليل أو التفسيق أو التبديع ونحو ذلك، وأن الحكم على المعين يختلف عن الحكم العام.
فمن ذلك ما ذكره المصنف رحمه الله من أن المعين قد يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أو يكون جاهلاً, أو يكون له إيمان عظيم وحسنات، فهذه ثلاثة احتمالات.
وحديث الرجل الذي أوصى بحرقه إذا مات وذره إنما يُحْمَل على الجهل، أي أنه يناسبه قول المصنف: [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص] فهذا أقرب ما يمكن حمله عليه، فإن كان يعلم لكنه جهل هذا،فالمقصود هو العلم الحقيقي لا أي علم.
وكنا قد وصلنا في شرح كلام شيخ الإسلام رحمه الله في الفتوى التي سئلها عن الذين يداومون على الرياضة حتى يتجوهروا إلى قوله(11/406): "لكن من الناس من يكون جاهلاً ببعض هذه الأحكام جهلاً يعذر به، فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة".
  1. بلوغ الحجة شرط في المؤاخذة والتكفير

    فقوله: "فلا يحكم بكفر أحدٍ حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة" يعتبر قاعدة مهمة ومعياراً يقاس به.
    يقول: "كما قال تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وقال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15]".
    يقول رحمه الله: [ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلم أن الصلاة واجبةٌ عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم؛ لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا].
    لا يَكفُر ولا يُكفَّر بعدم اعتقاده أن الصلاة واجبة أو أن الخمر محرم، وهاتان القضيتان من أظهر الأمور؛ لأن من أشهر وأظهر الواجبات: الصلاة، ومن أشهر وأظهر المحرمات: الخمر، وشيخ الإسلام رحمه الله دقيق في عبارته، لذلك عدل عن الزنا إلى الخمر؛ لأن الخمر تنفر منه النفوس السليمة وإن لم تكن متدينة، أما الزنا فإن الشهوات تدعو إليه، ولا يرتدع عنه إلا من كان يخاف الله، أو من لا يستطيعه.
    المقصود: أن واجباً معلوماً ظاهراً وهو الصلاة، ومحرماً معلوماً ظاهراً وهو شرب الخمر، من لم يعلم وجوب هذا وحرمة ذلك جاهلاً به، فإنه لا يكفَّر حتى تقوم عليه الحجة.
    يقول: "بل ولا يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية".
    قوله: "لا يعاقب" أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.
    أما في الدنيا: فمعلوم أنه لا يعاقب وهو لا يَعلَم، لكن يُعلَّم.
    وأما في الآخرة: فلدلالة ما تقدم من الآيات مع ما ذكرناه في حديث الأربعة الذين يمتحنون يوم القيامة.
  2. حكم من أسلم بدار حرب وما علم أن الصلاة واجبة

    يقول: "بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة، ثم علم".
    هذه مسألة تتفرع عن تلك المسألة، فإذا أسلم رجل في دار الحرب كـأمريكا أو بريطانيا أو الصين أو يوغسلافيا، وهو لا يعلم أن الصلاة واجبة، لأنه إنما أسلم بأن وجد شخصاً فعلَّمه الإسلام، أو وجد كتاباً فقرأ في هذا الكتاب أن الإسلام عقيدة صحيحة، وأن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الحق، فآمن بالله وآمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن القرآن حق والإيمان حق؛ لكن ما علم أن هناك صلاة ولا صياماً، وبقي شهراً أو سنةً، ثم وجد شباباً مهتدين دعاةً إلى الله فعلَّموه الصلاة، وأنها واجبة، فهل يقضي المدة التي لم يصلّ فيها؟
    يقول شيخ الإسلام : "اختلف العلماء: هل يجب عليه قضاء ما تركه بحال الجهل، على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره:
    أحدهما: لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة :
    والثاني: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ".