المادة    
المقصود الآن والوقفة التي ينبغي أن نتأملها ما دمنا هنا هي حول: كيف تنتكس العقول البشرية؟! أمر محزن مؤلم أن يطبق عدد كبير جداً من الأحبار ومن الكتبة ومن المؤرخين فيما بعدهم على إنكار حقيقة مصادمة لحقائق في كتاب الله تبارك وتعالى, والمتواتر بالتاريخ البشري كله، كل ذلك من أجل إقصاء أو إبعاد أمة عظيمة وشعباً عظيماً عن أي مكرمة وعن أي فضيلة، يحاولون بقدر الإمكان, ومع ذلك فما بقي في كتبهم كاف لأن يكون كما جاء: أمة عظيمة جداً جداً, واثنا عشر رئيساً يلد, ويسمون عرباً, ويسمون إسماعيليين, وأنه يكون لهم شأن عظيم؛ كلاهما أبناء الخليل عليه السلام، لماذا هذا الابن يعامل هذه المعاملة الزائدة, وينسب إليه كل فضل, والابن الآخر وأبناؤه لا يكادون يأتون عليهم ولا لذكرهم إلا لماماً؟
لماذا إذاً تحرف الكلمات كلها؟! -كما أشرنا- المصطلحات التاريخية, المصطلحات الجغرافية لماذا لا تكون المسافة نفسها؟! يعني: إذا كان إبراهيم عليه السلام قد قطع ألف ميل من جنوب العراق إلى أرض كنعان فما المشكلة أن يقطع نحو نصف هذه المسافة إلى أرض الحجاز ! لماذا لا يكون المقام الذي يعترفون به -مقام الله- أو المذبح هو المقام المعروف.. لماذا لا يكون الذبيح هو إسماعيل, كما سيأتي إن شاء الله في الحلقة القادمة.
بمعنى آخر: حقيقة كما بدأنا هذا اللقاء نقول: إننا أمام عالم متشابك من التحريفات ومن التأويلات الخاطئة, ومن اعتساف الحقائق, ومن ليّ القضايا؛ بحيث تصبح عندما تقرأ هذا الكلام في أصله في الكتاب الموجود لديهم أو في شروحاته تجد الغموض والاضطراب والتناقض، وتجد ما تجزم قطعاً أن وراءه ضغائن وأحقاد نفسية, وأنه لم ينطلق أبداً من حقائق علمية أو من حقائق موضوعية أو من بحوث من يتحرى الحق والحقيقة في ذلك.
نحمد الله تبارك وتعالى أن الذين قاموا وكتبوا في هذا وقليل من المستشرقين أو من المؤرخين الآخرين المنصفين لم يجدوا أي غضاضة في أن يقال: إن هذا الرجل أي: الخليل المبارك إبراهيم عليه السلام هاجر إلى الجنوب، وأنه بنى لله تبارك تعالى بيتاً في الأرض التي هي أبعد عن الوثنيات التي يسيطر عليها الملوك؛ عندما تكون الوثنيات كما في أرض العراق و الشام و مصر تحت سيطرة الملوك الوثنيين يصعب جداً إقامة بيت الله تبارك وتعالى على التوحيد والعبادة؛ لكن في أرض العرب أرض اليمن أو التيمن المشهورة عندهم بالحكمة أو في جبال فاران حيث لا يوجد تسلط إمبراطور أو ملك يفرض على الناس العقائد, حيث توجد قبائل حرة؛ بل أصلاً كان مكاناً مقفراً جاءت إليه قبائل مهاجرة من اليمن فتنزل عنده.
إذاً: هذه أجدر الأماكن, ولا سيما إذا اتفقنا نحن وهم -طبعاً نحن نتفق في هذا- أنه لم يخط خطوة إلا بوحي من الله, وأنه لم يهاجر عليه السلام إلا بوحي من الله، أليس ذكر بناء البيت والهجرة إلى الجنوب وإلى بناء الكعبة وما جاء فيها من العجائب, أليس هذا أجدر من القصص الطويلة عن قتال الملوك الذي ليس هناك فائدة من ورائه إلا المحافظة على الغنم! أو لقائه لـأبي مالك وأمثاله, أو تنقله عليه السلام من بلد إلى بلد وكأنه مجرد طلب للعيش أو طلب للزرق! لماذا لا نجعل رحلات إبراهيم الخليل عليه السلام كما ينبغي أن تكون, وهي رحلات لإقامة الدين والتوحيد! فأنذر شرقاً وأنذر غرباً وحاول هنا وهنا, ثم في الأخير جاء إلى أفضل بقعة هيئها الله تعالى له وبوئها له واختارها له؛ ليبني منها المكان الذي سوف ينطلق بإذن الله تبارك وتعالى منه الإيمان والخير والبركة إلى قيام الساعة, كما جاء في نبوة حبقوق وغيره عندما يقول: الله يأتي من تيمان والقدوس من جبل فاران.
الله يأتي من تيمان, يعني: نور الله ودين الله, كما قال قبل ذلك: يتجلى من جبل فاران، (والقدوس من جبل فاران)، القدوس الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه بشارات عظيمة من جملة بشارات كثيرة جداً سنأتي عليها إن شاء الله تبارك وتعالى.
الحقيقة أن هذه الحلقة ما هي إلا مدخل أو بداية للدخول في هذه الغابة المتشابكة من التحريفات والتأويلات لحقائق واضحة، سوف نستمر إن شاء الله تبارك وتعالى في عرضها هاهنا, وعند ذكر موسى عليه السلام وعيسى، بمعنى: أننا سنرى في كل مرة أن هذا التحريف وهذا التأويل ومحاولة الإقصاء والتهميش ما أمكن للعرب وللإسلام ولنبي الإسلام ولنبي آخر الزمان؛ أنها محاولة متعمدة مقصودة, وأن أي إنسان ينظر نظرة متجردة موضوعية تاريخية فإنه لا بد وأن يؤمن حقاً بما للخليل من مكانة صلوات الله وسلامه عليه؛ بل ما لمحمد صلى الله عليه وسلم من بشارات وذكر في الكتاب القديم في العهد القديم وأيضاً في الجديد، وبما تدل عليه كل دلالات التاريخ الآثارية المكتوبة المتواترة في أخبار القوم؛ من أن هذا هو الدين الذي سوف يظهره الله تبارك وتعالى على الدين كله، ويصدق عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم). دعا الله تبارك وتعالى أن يبعث في هذه الأمة -العرب- رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فكان صلوات الله وسلامه عليه كذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من المؤمنين الصادقين المتبعين للحق المبتعدين عن الهوى وعن الضلال والتضليل؛ إنه سميع مجيب.
والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.