المادة    
الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى سائر أنبياء الله المختارين المصطفين. أما بعد: أيها الإخوة والأخوات! وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى؛ فإن حديثنا في هذا اللقاء هو تتمة لما تقدم في اللقاءات التي قبله عن الخليل إبراهيم عليه السلام. الموضوع اليوم هو موضوع: رحلات إبراهيم الخليل عليه السلام في الأرض. ‏
  1. ثبوت تنقل إبراهيم عليه السلام من بلاد إلى بلاد

    هذا النبي الكريم الذي جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس تنقل من بلاد إلى بلاد؛ من العراق في الجنوب إلى الشمال؛ شمال غرب العراق أو ما بين العراق وبلاد الشام ، إلى أرض فلسطين وإلى مصر , وإلى جزيرة العرب في الحجاز.
    يمكن أن يكون التنقل أو الترحال لأي رجل يُؤرخ ويكتب عنه أمراً عادياً مألوفاً، ولا سيما إذا اتفق كل من يكتب عنه على أنه كان يرتحل من مكان إلى مكان، فالتنقل والترحال لا يثير أي مشكلة, وإذا اُتفق على أنه تنقل في أماكن عديدة متباعدة؛ فلا يبقى هنالك إشكال إذا تفردت إحدى المصادر بحديث عن هجرته أو رحلته إلى مكان آخر معقول وقريب, ولا يتنافى عقلاً ولا شرعاً مع التنقل في الأماكن الأخرى.
    هذه البساطة وهذا الموضوع العادي جعل منه أهل الكتاب والغربيون المستشرقون والمؤرخون وأمثالهم أمراً عجيباً، وحقيقة أن الباحث العلمي من أي دين أو من أي قومية يدهش وينذهل عندما يرى هذا العالم الغريب, والهالة الغريبة التي تقترن برحلات إبراهيم الخليل عليه السلام.
    عندما تريد أن تدخل في هذا الموضوع, وتريد أن تجمع الخيوط والأطراف والحقائق تدهش لهذا التخبط! عالم من التناقضات ومن التخبطات ومن التأويلات ومن التحريفات, يندهش الباحث العلمي عندما يجد فيما يقرره هؤلاء الذين يكتبون فقط بروح واحدة وبعامل واحد وبدافع واحد هو: إثبات الوراثة والخلافة, وحكرها وحصرها من إبراهيم الخليل في ذرية معينة, ونفي كل ما عدا ذلك؛ بل وصل -كما رأينا في اللقاءات الماضية- إلى أنه حتى لو نفي عن الخليل المآثر والفضائل العظيمة فلا يهمهم، الذي يهمهم هو هذه الحقيقة الواحدة, والتي تتجلى في مرات كثيرة, وفي كل لقاء تقريباً؛ لكن اليوم نجد تجليات أعجب وأعجب! كيف ذلك؟!
  2. ما يتحاشاه شارحوا التوراة في رحلات إبراهيم عليه السلام في الأرض

    نحن نجد أن التوراة ومن جاء من الشراح ليفصلوا الأماكن المذكورة فيها على الطبيعة؛ نجد أن هناك فرقاً عظيماً وتبايناً بين انتقال إبراهيم عليه السلام من الجنوب أور الكلدان , نشير هنا فقط أن المصادر الإسلامية والعربية تقول: إنها كوثة أو ما أشبه ذلك في جنوب العراق, ولا يهم الاسم؛ لكن هم يقولون: إنها في جنوب العراق باتفاق ثم الانتقال إلى حران , ثم نجد بعد ذلك الانتقال إلى أرض كنعان في الغرب, ثم إلى أرض فلسطين ثم إلى مصر، هذه التنقلات تستغرق على تقديرات المؤلفين لـدائرة المعارف الكتابية : يرون أن إبراهيم عليه السلام ارتحل مع أبيه من مسقط رأسه إلى الشمال الغربي في حران مسافة ستمائة ميل, -لاحظ المسافة- ولم يستغربوا ذلك -ولا غرابة في ذلك- ثم بعد ذلك لما أمره الله تبارك وتعالى أن يتجه إلى أرض كنعان ارتحل من هنالك إلى أرض كنعان فتبعد أربعمائة ميل, بعد ذلك لنا نحن أن نتصور المسافة من أرض كنعان إلى أرض مصر , حيث قابل الفرعون هناك, ثم رجع مرة أخرى، رحلات متوالية ومتتابعة يمكن أن نقدرها جميعاً بمئات الأميال أو أكثر, يعني: ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة ميل.
    فقط عند منطقة معينة من هذه الرحلات نجد الأرقام تختلف, ونجد النظرات تختلف، ونجد الخرائط تحرف, ونجد سياق القصة يتناقض، ثم يتناقض في مواضع أخرى مع يعقوب, ثم يتناقض في مواضع أخرى عندما يذكر إسماعيل! وهذا عندما يأتي الحديث عن رحلته عليه السلام إلى الجنوب، إلى جبال فاران إلى التيمن أو اليمن , هنا نجد التناقض والاختلاف والاضطراب, ونجد أنهم أطبقوا أو كادوا يطبقون جميعاً على أن هذه المنطقة ما هي إلا عشرات الأميال لا تزيد عن ثلاثين ميلاً أو أقل، والجنوب عندهم هو في سيناء نفسها؛ في بئر سبع في صحراء النقب , وكل القصص التي جاءت عن الجنوب جعلوها هاهنا، وجعلوا مقام إبراهيم -الذي يعترفون أنه المقام- والبيت -الذي يعترفون أنه بيت الله- منطقة مجهولة أو قرية مهجورة أو مكان ما؛ بل في عدة أماكن كما سوف نرى إن شاء الله تعالى.
    وكل ما حدث من أحداث ووقائع فهي تقع دائماً في نطاق هذه المنطقة؛ بحيث يصبح الحديث عن أي شيء إلى الجنوب أكثر من ذلك إخلالاً أو تجاوزاً أو لا صحة له على الإطلاق, وهكذا أجيال بعد أجيال تتوارث حقائق تاريخية واضحة وجلية, ومع ذلك تطمس أسماء الأعلام وتحرفها وتغير في أسماء الأماكن والخرائط والمسافات، وتُغيّر في روابط القصة وسردها، كل ذلك لكي تحصر كل هذه الأعمال والرحلات في فلسطين وفي جنوب فلسطين.
  3. سبب إنكار اليهود خروج إبراهيم من فلسطين إلى بلاد العرب

    وهنا سؤال: لماذا ينكر أنه تجاوز من جنوب فلسطين إلى بلاد العرب؟ إلى بلاد الإسماعيليين؟!
    كل ذلك حتى لا يبقى أي شيء يدل على أنه بنى الكعبة البيت الله الحرام؛ بيت الله الحقيقي، أو أنه زار ابنه إسماعيل في هذا المكان, أو أن ماء العين -ماء الحياة- الذي نبع من تحت أرجل إسماعيل هو في مكة ، أو أن وادي البكاء هو مكة أو بكة ، أو أن الأسماء الأخرى التي وردت لـمكة , مثل: بكة أو مثل ميشة أو مثل مشة و فاران وما أشبه ذلك أو ما عبر عنه بـ اليمن كلها لا حقيقة لها.
    وبالذات عندما نجد أن المسألة -إذا أردنا أن نأخذ الموضوع من أوله- تتقدم بكثير على قضية ما يظن هؤلاء عن قصة إبراهيم الخليل وما بعد إبراهيم الخليل, بمعنى: اختيار الله سبحانه وتعالى ووعد الله سبحانه وتعالى للبلد الحرام ولإبراهيم, ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم تأتي في سياقات كثيرة جداً -نقول: من كتبهم- كما في إنجيل برنابا وغيره فليرفضوا الاعتراف به، المهم: أن هذا موجود في مصادر لا علاقة لنا بها، ومن أقوى المواضع التي تأتي من بعده ما جاء في سفر التثنية وهي من أعظم البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم، في أول الفصل الثالث والثلاثين يقول: أقبل الرب من سيناء وأشرق من سعير, وتجلى من جبل فاران, ويأتي حبقوق بنبوءته فيبين ويقول: الله يأتي من تيمان الله, والقدوس من جبل فاران.
    ومع ذلك نلحظ هنالك تجاهلاً مطلقاً لتيمان أو فاران, وتحريفاً لها, وفي مواضع أخرى يأتي ذكر أدوم.
    نحن نلاحظ عندما يتكلم عن تيمان أو تيمون فهي اليمن ، وعندما يتحدث عن فاران فيأتي أنها في الجنوب، وعندما يقول: ذهب إلى الجنوب فيتكلم عن الجنوب, وعندما يقول: أدوم فهي في الجنوب الشرقي, وعندما يتكلم عن بلاد العرب أو عن الصحراء.. في كل الأوصاف هذه نجد أن هناك ما يدل على اتجاه نحو الجنوب؛ لكنه جنوب بعيد، حُرّف كله ليكون فقط جنوب فلسطين .