المادة كاملة    
بيَّن هذا الدرس حكم أطفال المشركين في الآخرة، مع ذكر الأقوال في هذه المسألة وبيان الراجح منها، ثم تطرق لموضوع الفطرة، فبين أن كل إنسان مهما كان نوعه فإنه مفطور على الإقرار بتوحيد الربوبية.
  1. الجهل ومتابعة الغير بلا بصيرة لا تنفع صاحبها في عدم معرفته بربه

     المرفق    
    تعرض المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا بعد أن انتهى من الأقوال في حقيقة الميثاق إِلَى مسألة مهمة وهي مسألة توحيد الربوبية، وهل الربوبية أمر فطري أم غير فطري؟ وما رسمه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في العقول والفطر من معرفته عَزَّ وَجَلَّ والإقرار بربوبيته، وتعرض لمسألة التقليد ومسألة الجهل، في عدم معرفة الله - عَزَّ وَجَلَّ - بناءً عَلَى أحد هاتين العلتين:
    العلة الأولى: الجهل وعدم المعرفة بالله.
    العلة الأخرى: التقليد والمتابعة من غير علم ولا بصيرة.
    فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقطع هاتين العلتين كما قال تَعَالَى: ((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] أي: أشهدناكم وأقررناكم عَلَى ذلك لكي لا تقولوا يَوْمَ القِيَامَةِ ((إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) فهذا يقطع العلة الأولى وهي علة الجهل.
    والكلام الآن في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية خاصةً -تفصيلاته- لا يمكن أن تعلم إلا من طريق الرَّسُول، أي: كيف نعبد ربنا عَزَّ وَجَلَّ، وما هي أنواع العبادة، ولكن الإقرار بأن الله عَزَّ وَجَلَّ ربنا وخالقنا ورازقنا وأنه الذي يستحق العبادة وحده هذا مركوز في الفطر، ويعلمه كل بنى آدم علماً ضرورياً بالبداهة من غير تفكير ولا نظر.
    فالعلة الأولى التي يعتذر بها المُشْرِكُونَ وأعداء الله تَعَالَى والجاحدون هي: أنهم لا يعرفون ربهم، أو قد يقَالَ: إننا لا نعرف ربنا قتقطعها هذه الجملة((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] فلا عذر لكم بالجهل فقد عُرِّفتم وعلمتم ربكم عَزَّ وَجَلَّ.
    والعلة الأخرى: أن يقَالَ: إننا عرفنا ربنا ولم ننكر ولم نجحد، ولكننا وجدنا آبائنا عَلَى أمة، وإنا عَلَى آثارهم مقتدون، واتبعنا ما ألفينا عليه آباءنا، وأطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل، إِلَى آخر ما يقوله أُولَئِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، هذا يقطعه ما ((أَنْ تَقُولُوا)) أي: لكي لا تقولوا أيضاً: ((إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ))[الأعراف:173] أي: نَحْنُ لم نؤمن بالشرك، وإنما أشرك آباؤنا فتبعناهم وكنا ذرية من بعدهم.
    ولهذا قالوا ((أفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ))[الأعراف:173] أُولَئِكَ المبطلون الذين أحدثوا وغيروا ونحن اتبعناهم، ولو تأملنا حال كفار قريش الذين بعث فيهم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدناهم من هذا النوع، فالذي غير دين العرب وملة العرب هو: عمرو بن لحي الخزاعي وحرفهم عن الحنفية ملة إبراهيم وملة أبيهم إسماعيل، عقيدة الفطرة والملة القويمة.
    فانصرفوا عنها إِلَى عبادة الأصنام، كما ثبت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك فإن قريشاً اتبعت عمرو بن لحي
    فهل ينفعهم أن يقولوا: إننا كنا متبعين لآبائنا، لا ينفعهم ذلك لأن هذا عين ما قالوه للرَسُولِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يقبل منهم هذا؛ بل جعل ذلك من موجبات غضبه عليهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة، ثُمَّ احتجوا عليه بما فعل المبطلون.
    المقصود من هذا: أن نعلم أنه ليس لأحدٍِ أن يعتذر عن عدم معرفته بالله عَزَّ وَجَلَّ وعدم الإقرار بها، بأنه كَانَ جاهلاً بذلك. فإن الدليل الفطري مركوز في نفسه، أو يقول: إني تابعت الآباء والأجداد، أو أخضعتني التربية لذلك؛ لأن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قد قطع هذا العذر، ولو أن الإِنسَان فكر لعلم أن ما عليه الآباء والأجداد باطل.
  2. حكم أطفال المشركين

     المرفق    
    ونتعرض الآن لمسألة ينبغي أن تعلم، وإن كانت ليست من مسائل أصول العقيدة، ولكنها من فروعها وأحكامها، ولكن المعرفة والعلم بها خير، ولا سيما وقد خالف فيها من خالف من الفرق، وهي مسألة الأطفال الذين يموتون صغاراً بِمَ يلتحقون؟ وهل يكونون مع المؤمنين في الجنة، أم مع الْمُشْرِكِينَ في النار؟.
    1. أطفال المشركين في الدنيا

      نقول: أولاً: نفرق بين أطفال الْمُسْلِمِينَ وأطفال الْمُشْرِكِينَ، فأطفال الْمُسْلِمِينَ الذين يموتون وهم صغار فقول أكثر العلماء: إنهم في الجنة، بل لو قيل: إنه إجماع؛ لما كَانَ خطأً؛ لأن من خالف لم يأت بقول ثابت إِلَى مخالف من السلف وإنما قد ينقل أن السلف قد اختلفوا في الأطفال، وهم إنما اختلفوا في الحقيقة في أطفال الْمُشْرِكِينَ؛ لأنه يولد عَلَى الفطرة في دار الإسلام ومن أبوين مسلمين فسوف يموت عليه، ومن مات وهو دون سن التكليف ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة:286] لا يحاسبه الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو دون سن التكليف.
      ولهذا إذا رأى الطفل علامة البلوغ من شعر أو احتلام أو بلغ سنه الخامسة عشر أصبح من البالغين، فهل تقول له: أسلم وقل: لا إله إلا الله، ثُمَّ ابدأ بالصلاة؟ لا؛ لأن هذا ليس له أصل من كتاب الله ولا من سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أحدثه بعض أهل الكلام لأنه مولود عَلَى الفطرة القويمة، وإنما انتقل من مرحلة ما دون التكليف إِلَى مرحلة التكليف والالتزام بالأحكام الشرعية،.
      فنأخذ من ذلك أن أطفال الْمُسْلِمِينَ مسلمون، والأبناء تبع لآبائهم، فأبناء الكفار في أحكام الدنيا تبعاً لآبائهم، فلو ذهبنا نقاتل كفاراً فهل نقتل أبناءهم، الأصل: أننا لا نقتل طفلاً أو امرأة ولا شيخاً هرماً، ولكن لو خرج الكفار بأطفالهم وذرياتهم صفاً فسيموتون جميعاً الأطفال والنساء والكبار، فأطفالهم منهم -كما جَاءَ في الحديث- في أحكام الدنيا، ولهذا من ثبت أنه ابن لكافرين، فإنه يظل ابناً لهما في أحكام الدنيا، سواء كانا ذميين أو حربيين، ولا ينقل عن ذلك إلا بالأحكام الشرعية المعروفة، بحيث لا يكون له عليهما ولاية.
      المقصود: أنهم في الدنيا تبع لآبائهم، وفي الآخرة يختلف الحكم لأمر آخر؛ لأن هنالك الحساب وهنالك حكمة الله، فعدله سبحانه يمنع جريان ذلك.
      إذاً: فالأصل العام أن الأطفال تبعاً لآبائهم، وقد ثبت في الصحيحين: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى من عجائب ما رأى في عالم الغيب ومن جملة ما رأى، أنه رأى شيخاً كبيراً وحوله ولدان، فلما سأل الملَكين اللَّذَيْن يقولان له: انطلق: من هذا الشيخ؟ ومن هَؤُلاءِ الذين معه؟ فَقَالُوا: هذا إبراهيم، وهَؤُلاءِ الذين معه ولدان لمسلمين} وأيضاً جَاءَ في رواية ذراري أو ولدان الْمُشْرِكِينَ
      .
      ولكن كلامنا الآن عن ولدان الْمُسْلِمِينَ، فنقول: إن هذا الحديث الصحيح المتفق عَلَى صحته دليل عَلَى أن أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة، وقد اعترض عَلَى هذا القول بحديث عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- {لما أوتي بجنازة صبي فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ولم يقر عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها - أو غير ذلك يا عَائِِِشَةَ: الله أعلم بما كانوا عاملين إن الله قد خلق الجنة وخلق لها أهلاً ولها يعملون وخلق النَّار وخلق لها أهلاً ولها يعملون}
      .
      فيجاب عن هذا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعترض عَلَى عَائِِِشَةَ في أنها قالت: إن أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة، ولكنه اعترض عَلَى الإطلاق العام والتعيين عندما قالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فهذا الإطلاق يفهم منه: أن كل معين يموت من أطفال الْمُسْلِمِينَ يقال: في الجنة بصيغة الجزم -وكما سبق- أن الصحيح أن أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة، أي: في الجملة، كالشهداء في الجنة في الجملة، لكن لا نستطيع التعيين.
      ففي هذا الحديث أن عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لما أن جزمت بذلك وأطلقت ولم تستثنِ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد الأمر إِلَى القدر العام، وهو أن الله تَعَالَى خلق الجنة وخلق لها أهلاً ولها يعملون وخلق النَّار وخلق لها أهلاً ولها يعملون، فلم ينف الجنة عن ذلك، ولكنه نهى عن الإطلاق العام، وأما أطفال الْمُشْرِكِينَ فقد وقع فيهم خلاف.
    2. أطفال المشركين في الآخرة

      ومجمل القول في ذلك: أن المسألة عَلَى ثلاثة أقوال:
      القول الأول: أن أطفال الْمُشْرِكِينَ في الجنة، واحتج لهذا بما احتجوا به في أطفال الْمُسْلِمِينَ.
      أولاً: أنهم عَلَى الفطرة، {كل مولود يولد عَلَى الفطرة}.
      ثانياً: أنهم لم يفعلوا ما يؤاخذون به، ولم يفعلوا ما يعذبون به، فهم إذاً عَلَى الفطرة القويمة السليمة، فاللائق بعدل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنهم من أصحاب الجنة.
      ثالثاً: احتجوا بالرواية التي وردت في حديث إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- أنه رأى ذراري الْمُشْرِكِينَ مع ذراري المؤمنين،، ثُمَّ اختلف هَؤُلاءِ: فَقَالَ بعضهم: إن أطفال الْمُشْرِكِينَ مثل أطفال الْمُسْلِمِينَ في الجنة. وبعضهم قَالَ: إنهم في الجنة لكن ليسوا بمنزلة أطفال المؤمنين بل هم خدم في الجنة، واحتج أصحاب القول الأول القائلين بأن أطفال الْمُشْرِكِينَ في الجنة بما رواه الإمام أَحْمَد-رحمه الله تعالى- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد -أي: الموؤد- في الجنة}، قالوا: جعل المولود مع الشهيد، ومع النبي، ومع المؤود، فهذا المولود عام ذكراً كَانَ أو أنثى من أب كافر أو مسلم فهو في الجنة.
      والقول الثاني: ذهب إليه الخوارج وبعض أهل العلم، وقد استدل من ذهب من العلماء إِلَى هذا القول بأحاديث رويت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا يثبت ولا يصح منها شيء.
      فأما الخوارج فإن كلمة الْمُشْرِكِينَ عندهم ليست الكلمة التي نستخدمها، فهم يقولون: كل من ليس من الخوارج فأطفالهم في النَّار؛ لأن الْمُسْلِمِينَ عندهم مُشْرِكُونَ، بل ذهب الحال ببعض الخوارج إلى أن قالوا: كل إنسان يبلغ سن البلوغ لا بد أن يمتحن فإن أقر بالإسلام والإيمان -كما يصفونه هم- وإلا فإنه كافر،
      والخوارج درجات، أكثرهم غلواً الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، ثُمَّ يليهم النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي، ثُمَّ أخفهم الإباضية، ثُمَّ الميمونية وأشباههم وهم فرق كثيرة لا يعلمها إلا الله، كلهم ضلوا عن الحق،.
      واختلف نجدة ونافع بن الأزرق في هذه المسألة، قال نجدة: نعتبر الأطفال ومن كَانَ في دار المشركين -دار الإسلام- منافقين ولا يجرم بكفرهم، ومن حجة الأزارقة ومن اتبعهم في هذه المسألة قول الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى في سورة نوح ((إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)) [نوح:27] فَقَالُوا: إن الآية صريحة في أن أولاد الكفار يولدوا عَلَى الكفر.
      والجواب عن هذا الاستدلال من عدة أوجه:
      أولاً: أن أطفال الكفار في الدنيا هم من الكفار كما سبق أن قررناه، ومنها أن نوحاً -عَلَيْهِ السَّلام- قد يأس من دعوة قومه حتى أن ربه -عَزَّ وَجَلَّ- أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلذلك دعا عليهم عندما تيقن أو غلب ذلك عَلَى ظنه.
      ثانياً: أنه قال: ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا، أي: أن أولادهم سيتربون عَلَى الكفر فيصبحون كفاراً إذا كبروا.
      وليس المراد أنه في حين ولادته يولد وهو فاجر كافر، إنما يولد عَلَى الفطرة كما ثبت ذلك في الأحاديث، ولكن هَؤُلاءِ القوم سيضلونهم، كما هو الحال فيمن ولد في بيئة شيوعية فإنه سيكون شيوعياً، فالتعبير عن الحال التي سيؤول إليه هذا الطفل إذا كبر في ظل هذه التربية وفي ظل هذا المجتمع.
      القول الثالث وهو منسوب للإمام أَحْمَد -رحمه الله تعالى-: وبعض السلف وهو: التوقف في الحكم عَلَى أطفال الْمُشْرِكِينَ، فلا نقول: إنهم من أهل الجنة، ولا من أهل النَّار، وذلك لما يلي:
      أولاً: لتعارض الأدلة في ذلك وعدم وضوح وبيان شيء منها في نظرهم.
      ثانياً: ما ورد وصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح السابق أنه قال: {الله أعلم بما كانوا عاملين} هذه هي المذاهب في ذلك.
      القول الرابع: وهو الذي نرجحه ونختاره ونرجو أن يكون هو الصواب بإذن الله -عَزَّ وَجَلَّ- هو: ما ذهب إليه ورجحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم وابن كثير وجمع من العلماء، وهو: أن أطفال الْمُشْرِكِينَ يمتحنون يَوْمَ القِيَامَةِ، فإن آمنوا دخلوا الجنة وإن كَفَرُوا دخلوا النار.
      وقد يتردد الإِنسَان في هذا الترجيح ومن أسباب هذا التردد أن حديث الامتحان لم يثبت بطريق يعتمد عليه بسند واحد صحيح، إنما هو في الحقيقة مجموع طرق يمكن أن يقَالَ: إنها حسنة، ويشد بعضها بعضاً، وحديث الامتحان رواه الإمام أَحْمَد وأبو يعلى وغيرهما بطرق مختلفة وبألفاظ مختلفة ولكنها متقاربة، أنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ أربعة يحاجون الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهم رجل -في بعض الروايات- أصم، ورجل أبكم، ورجل أحمق، ورجل صاحب فترة، وفي بعض الروايات أنه مولود صغير والأحمق مكانه المجنون أو المعتوه والثالث أنه صاحب فترة والرابع أنه رجل هرم.
      يأتي هَؤُلاءِ فيقول الطفل الصغير: يا رب إنني صغير ولم أسمع ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ويقول الكبير: يا رب قد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا لا أعقل ولم أفهم شيئاً.
      ويقول المجنون أو المعتوه: يا رب بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأطفال يخذفونني بالحجارة لا أعقل شيئاً.
      والأصم والأبكم كذلك.
      فلو تأملنا مجموع الطرق لوجدنا أن الأربعة مرجعهم إِلَى فقدان العقل والإحساس، وهذا يشمل المعتوه والأصم والأبكم، وأنهم ليس لديهم الحاسة التي يستطيعون بها أن يعلموا.
      وصاحب الفترة يقول: يا رب ما سمعت ببني قط، وما وصلت إليَّ رسالة رَسُول قط، فهَؤُلاءِ الأربعة يمتحنهم الله في عرصات القيامة، بأن يوقد النَّار أو يخرج لهم لسان من النار، ويقول لهم: ادخلوها، فإن دخلوها كانت برداً وسلاماً عليهم، وإن عصوا وأبوا ألقوا فيها.
      والاستدال عَلَى هذه القضية يأتي من وجهين:
      الوجه الأول: هو هذا الذي ذكرناه من الطرق والأحاديث والروايات.
      والوجه الثاني: أن الامتحان والابتلاء ليس خاصاً بهذه الحياة الدنيا، فإن الإِنسَان يمتحن في البرزخ، ويدل له حديث القبر. وفيه:
      فيقال له: من ربك؟
      وما دينك؟
      ومن نبيك؟
      وفي يَوْمِ القِيَامَةِ امتحانات، ومن ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتجلى لعباده المؤمنين في صورة غير الصورة التي يعرفون ليمتحنهم بذلك في الموقف المهيب
      كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، لذلك فمن جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وقال: يا رب لم تبلغنِ الدعوة لم يأتنِ الرَّسُول.
      وقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح {لا أحد أحب إليه العذر من الله} فقد أعذر إِلَى النَّاس وأقام عليهم البينات، ولهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب، فإذا جَاءَ هَؤُلاءِ واشتكوا إِلَى ربهم وَقَالُوا: ما أتانا من رَسُول، وما جاءنا من نذير، فمن حكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء أنه يمتحنهم، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فإن الذي يدخل الجنة، أو الذي يدخل النَّار، سواء كَانَ امتحن في الدنيا أو امتحن في الآخرة، فإنه لن يدخل أحد الدارين إلا بما عمل بإرادته واختياره.
    3. الجواب على الاستدلالات السابقة

      وحديث {الله أعلم بما كانوا عاملين} لا يتنافى مع القول بالامتحان، ويمكن أن نجعله دليلاً عَلَى الامتحان لأن الله يعلم ما كانوا عاملين، أي: إن نجحوا وآمنوا ساعة الامتحان يَوْمَ القِيَامَةِ فالله تَعَالَى سيدخلهم الجنة.
      وإن كَفَرُوا وعصوا الله تَعَالَى سيدخلهم النار،
      أما حديث الخليل - عَلَيْهِ السَّلام - عَلَى رواية (أن ذراري الْمُشْرِكِينَ كانوا معه) يحتمل أنهم امتحنوا فنجحوا، أو أن هَؤُلاءِ سيكونون عَلَى الصورة التي كانوا عليها، أي: أن هَؤُلاءِ الذراري الذين امتحنوا فنجحوا سموا أطفال الْمُشْرِكِينَ، نسبةً إلى ما كانوا عليه في الدنيا، فلهذا قال: {ذراري الْمُشْرِكِينَ وأطفال الْمُشْرِكِينَ} فأطفال الْمُسْلِمِينَ دخلوا الجنة لأنهم أطفال الْمُسْلِمِينَ، وأطفال الْمُشْرِكِينَ كانوا مع الخليل في الجنة؛ لأنهم الذين نجحوا في الامتحان، أي أنهم أطاعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      إذاً: لا يمنع أن يوجد منهم من هو في النار
      .
      هذا ما نلخص إليه في هذه المسألة وقد أطال فيها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمه الله تعالى، وذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لقول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً))[الإسراء:15].
      أما أطفال أهل البدع والمعاصى، فإذا كَانَ المراد بهم أهل البدع والمعاصي من الْمُسْلِمِينَ الذين لم يلتحقوا بالْمُشْرِكِينَ، فهَؤُلاءِ من أطفال الْمُسْلِمِينَ وحكمهم حكم أطفال الْمُسْلِمِينَ، أما البدعة التي تُخرج من الملة وأصحابها مُشْرِكُونَ، لهم الحكم السابق الذي ذكر الخلاف فيه، ولا نتبعهم بآبائهم؛ لأنهم مُشْرِكُونَ فنقول: إنهم مُشْرِكُونَ.
      وهناك مسألة وهي لماذا أولاد الروافض يبقون روافض؟ هل دين الرفض من الفطرة وهل دين الخوارج من الفطرة، وهكذا فالصوفي يريد أن يكون ابنه صوفياً، والخارجي يريد أن يكون ابنه خارجياً، فالرافضي يريد أن يكون ابنه رافضياً.
      فإذاً لا ندعه عَلَى ذلك بل يوضح له الحق، فإذا وضح لديه الحق فقد قامت عليه الحجة، ولا نعنى بوضوح الحق أن يسمع جميع الحجج والبراهين، بل يكفي أن يفكر الإِنسَان في دينه وأن يعلم ويسمع بالمخالف، ولهذا نقول للنصارى واليهود الذين يقولون: نَحْنُ لا نسمع عن الإسلام شيئاً: يقال لهم: يكفيك أنك سمعت أن نبياً بعث هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن أمته هي الأمة التي تعبد الله، قال تعالى: ((لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ َمَنْ بَلَغَ))[الأنعام:19]، وفي الحديث الصحيح {لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار}.
      فعنده الميثاق الأول والفطرة والسماع، فالذي ينبغي في هذه الحالة هو الإيمان، وحينئذٍ ليس هنالك من عذر لا للمشركين، ولا ممن كَانَ بين أهل الإسلام وولد في ديار الإسلام ولكنه اتبع ما عليه الآباء من العادات القبلية، أو التقاليد البيئية، التي فيها شركيات أو بدع أو ضلالات أو أخلاقيات مخالفة لأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

      ولهذا سماهم مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، مسلمة الدار، أي: مسلموا الدار، ولو ولدوا في أي دار لكانوا كما عليه أهل تلك الدار، وهذه نعمة من الله وفضل أن كثيراً من النَّاس يولد في دار الإسلام؛ لأن أكثر النَّاس لا يعقلون، ولا يفكرون، وإنما يدينون بما يرون النَّاس عليه، فمن لطف الله أن يولد ملايين من النَّاس في ديار الإسلام، فيكونون مسلمين بهذه التبعية، بغض النظر عما ينتشر من الخرافات والضلالات بين الْمُسْلِمِينَ، لكن هذا لا يعني أننا نرضى ونقر ونقول: إن إسلام الدار يكفي بل لا بد من الإسلام الطوعي -إسلام الاختيار- وهو أن يفقه الإِنسَان ما جَاءَ به مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيتفقه في الدين ويتعلمه ويعرف ربه - عَزَّ وَجَلَّ - حق المعرفة، ويعرف دينه، ويعرف كيف يعبد ربه، ولو إِلَى الحد الأدنى الذي لا يعفى ولا يعذر فيه أي إنسان، وعلى الإِنسَان أن ينظر من أي الفريقين هو.
  3. توحيد الربوبية مركوز في الفطرة

     المرفق    
    كيف نقول: إن توحيد الربوبية لا يحتاج إِلَى دليل لأنه قائم ومركوز في النفس، ثم نقول: تفكروا وتبصروا؟ نقول: وجود الدليل شيء واستظهاره شيء آخر.
    مثال ذلك: لا يوجد أحد إلا وهو متيقن بالموت، فالدليل قائم، ولكن من يستظهر هذا الدليل، وإلى أين سيذهب بعد الموت، وأكثر الناس في هذه المسألة كالأنعام بل هم أضل، وهذا حال عجيب كما قال الحسن -رَحِمَهُ اللهُ-: " ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت "، وكان أبو الدرداء يقول: " حال النَّاس أنهم: يبنون ما لا يسكنون، ويجمعون ما لا يأكلون، ويؤملون مالا يدركون " فما بالكم بالاستدلال عَلَى معرفة ربهم عَزَّ وَجَلَّ، فلو قلت لأي إنسان: اعرف ربك سيقول لك: تعلمني ربي أنا أعرف ربي، فأكثر النَّاس يعرف أن هناك رباً فقط، لكن هذا الرب ما شأنه؟ وما شأنك معه؟ وما معاملتك له؟ وما مدى إيمانك بربك عَزَّ وَجَلَّ؟ هل هو إيمان حقيقي وليس مجرد تقليد
    .
    ولو كان كذلك إذاً: انظر إِلَى ما شئت -كما ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ- انظر إِلَى أقرب ما ينظر إليه المرء في نفسه ((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ))[الطارق:5-6] وعلماء الإسلام -رحمهم الله تَعَالَى- مثّل بعضهم بالنطفة، وبعضهم مثل البيضة وَقَالُوا: انظر إِلَى هذه البيضة، كيف تكون ماء في داخل هذا العظم، وغشاء وبياضاً وصفاراً، وكيف يخرج منها طائر له هذا المنقار، وأظافر، ويخرج وعليه ذلك الريش أنعم من القطن... إلخ.
    والمصنف يقول هنا: لو كانت النطفة موضوعة عَلَى لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم عَلَى أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا، فكان العلماء في السابق يظنون أن الإِنسَان يخلق من هذه النطفة جميعاً، فَيَقُولُ: من يستطيع أن يصور من هذه النطفة الإِنسَان.
    هذا الذي حير العقول بالماضي، ونحن الآن يجب أن نحتار أضعاف تلك الحيرة، لماذا؟ لأننا الآن عرفنا شيئاً كَانَ الأولون لا يعرفونه، عرفنا أن هذه النطفة ملايين من الحيوانات كما يقول علماء الأحياء، وكل واحد من هذه الملايين لو أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودخل حيث أعد الله هذه البيضة في الرحم فإنه سيكون بشراً سويا، وبعد ذلك قالوا: وهذا الصغير الذي لا يرى إلا بالمكبرات
    والذي يكون منه هذا الإِنسَان المتكبر عَلَى الله الذي إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، والذي يسمع نداء الله حي عَلَى الصلاة حي عَلَى الفلاح ويعرض ولا يبالي، هذا الذي هذا أصله، ولا نقف عند هذا الحد بل أن الجينات حاملات الوراثة التي لم تكتشف إلا في هذا القرن فيها مختزل شكل الإِنسَان، وحياته، وتفكيره، ورغباته، وميوله بحيث لو أن الأب عندما يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين وجدت له حبة صغيرة سوداء في أي مكان من جسده، فكذلك تكون هذه الحبة في ولده إذا بلغ الثلاثين، وهذه الحبة مختزلة في تلك النطفة، ولو فتشت جسده الآن لا تجد شيئاً، لكن بعد سنوات سيكون هذا، وهو مختزل في هذه النطفة التي لا ترى بالمجاهر الكبيرة، فهذا شيء عجيب لو تأمله الإِنسَان، ولهذا قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ))[فصلت:53] وليرجع إِلَى كتاب صغير ومؤلفه كافر لكن فيه العجائب مما يدل عَلَى أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطرة كما قَالَ المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - وهو كتاب العلم يدعو إِلَى الإيمان، لرجل يدعى كريس مرسون وهو رئيس الأكاديمية العالمية في نيويورك وعنوان الكتاب الأصلى الإِنسَان لا يقوم وحده أي: لا بد للإنسان من خالق فالإِنسَان لا يقوم وحده، رد فيه عَلَى أحد الملاحدة الذي كتب كتاباً يقول فيه الإِنسَان يقوم وحده، وانظر إِلَى أي كتاب في الفلك أو الأحياء؛ فإنه سيدلك عَلَى توحيد الربوبية، والاستدلال عَلَى توحيد الربوبية وما يلزمه من الأولوهية، إنما يسره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لكل ذي لب وذي عقل.