المادة    
ولذلك عندما نستعرض المنهج الثالث -وهو منهج الملحدين المنكرين- فإن من أول ما يفاجئنا بأن كُتَّاب مَن يسمون بكُتَّاب عصر التنوير -الذين كتبوا في هذه القضايا في الكتاب المقدس- تمادوا حتى أنكروا مطلقاً وجود الخليل عليه السلام, وقالوا: إنه شخصية مختلقة لا حقيقة لها ولا وجود على الإطلاق، فلم يقفوا عند حد إنكار المعجزات؛ بل أنكروا وجود الشخصية، وما دام أن الأحبار والرهبان الذين حرفوا الكتاب رضوا لأنفسهم أن يدخلوا في هذا الطريق -تنحية ما لا يريدون أو تأخيره أو إنزالها إلى الهامش- فلا يستغرب بعد ذلك أن يُتمم الملاحدة الذين ينكرون وجود الله أو ينكرون الوحي مطلقاً أن يتموا الطريق فينكروا وجود شخصية الخليل، فيقولون: لا وجود له على الإطلاق.
الحقيقة هناك قضية وشاهد آخر ما دمنا نتلكم عن عصر التنوير والمصادر النصرانية الموجودة, ولنفترض أنها بذلك العصر ضمت المصادر اليهودية إلى المصادر النصرانية ، هذه قضية مهمة في هذا الشأن، وهي: أن الكنائس الشرقية؛ الكنيسة السريانية في المشرق وهم الذين يغلب أنهم النسطورية أو النساطرة, الذين بقيت بقايا منهم في العراق وفي بلاد الشام ، هؤلاء لم ينسوا أبداً هذه الحادثة!
وهنا أيضاً نتساءل من أين جاءت؟ يتحدثون عن النار وإنجاء الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم منها؛ بل لم يجعلوا ذلك حدثاً عادياً؛ وإنما جعلوا لها عيداً، وهذا العيد يجعلونه في الخامس والعشرين من كانون الثاني, ويحتفلون في هذا اليوم بهذه المناسبة، كما يحتفل اليهود بالضبط بمناسبة يوم الخروج من مصر , ويوم العبور والنجاة من ذل فرعون وعبوديته, وإهلاك الله تبارك وتعالى لفرعون، وإنجاء موسى ومن معه في المحرم.
نفس هؤلاء القوم -أي: أصحاب الكنيسة السريانية- عندما يحتفلون بذلك, ويوجد أو يشار أيضاً إلى أن شيئاً من ذلك موجود لدى بعض الصابئة وغيرهم؛ فمعنى ذلك: أن الحادثة موجودة, وأن لها مصادرها الأخرى، بمعنى آخر: هل نستطيع أن نقول: إن الغرب النصراني استمر على ما فعله أحبار بني إسرائيل من تحريف فحدث هو أيضاً ذلك وتعمد ولم يتعمق في المصادر الأخرى النصرانية أم ماذا؟ يعني: إذا كانت هذه كنائس نصرانية ومصادر نصرانية معتبرة ورثت أيضاً هذه الحادثة كما ورثها فِرق من اليهود، فمعنى ذلك: أن الذين جاءوا من بعد في الكنائس التي لا تذكر هذه الحادثة ولا تؤمن بها؛ إما أنهم أخذوا كلام اليهود مسلماً كما كان لوثر يقول: إن النصارى كالكلاب بالنسبة لليهود؛ فلا يؤخذون إلا الفتات أو ما يبقى عنهم! هل هذا كذلك؟ أو يمكن أن نقول بطريقة أخرى: لماذا لم تأت الكنائس الأوروبية والنصرانية -بالذات الإصلاحية البروتستانتية- فيستقصوا ما في الشرق عن إبراهيم عليه السلام وعن موسى وعن المسيح, وعن أحداث كثيرة ستأتينا, ونحن الآن نقدم هذه كنماذج فقط.
بمعنى آخر: منهجية البحث العلمي أيضاً والاطلاع على كل الأحداث تقتضي منهم ألا يكتفوا ويقتصروا بما لديهم؛ بل يبحثوا بما لدى الفرق الأخرى، ولا سيما في مثل هذه التي لا يترتب عليها أي إشكالية.
طبعاً نحن عندما نتعرض إن شاء الله في لقاء قادم لقضية هجرة الخليل عليه السلام إلى الجنوب وبناء الكعبة نقول: إن لديهم فيها إشكالية؛ وهي أنهم يريدون أن يطمسوا, ويمحوا أي شيء يشير إلى العرب؛ لكن إثبات هذه الحادثة لا إشكالية فيها من هذا الشأن؛ لأنها تتعلق بذات الخليل, وتزيد عظمته عظمة، وتزيد شخصيته عند المؤمنين به من أكثر شعوب أهل الأرض اليوم تعلقاً وتأثيراً بهذا الرجل العظيم.
إذاً: لماذا نُحِّيت؟ فلنفترض أدنى الفروض هو: أن هذا خلل وتقصير في المنهج العلمي البحثي فيما يُورث عن الأنبياء السابقين، هذا وحده كاف في أن الحادثة أو أن التاريخ الحقيقي للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يأخذ ما ينبغي له أن يأخذ من التمحيص والتدقيق والبحث.