المادة    
  1. عدم ذكر التوراة لحادثة الإلقاء

    الشيء الملاحظ -أيها الإخوة والأخوات- أن سفر التكوين الموجود من التوراة حالياً بترجمتيه أو بأنواعه لم يتعرض لهذه الحادثة! وهنا فعلاً يثار السؤال الدائم لما يُغفل مثل هذا؟ وتفسير ذلك ممكن على ضوء ما قررناه ونعلمه من الحلقات الماضية؛ وهو أن الذين كتبوا هذا السفر ولا سيما في العصور المتأخرة كان يهمهم أمر واحد وقضية واحدة؛ هي: قضية الوعد لبني إسرائيل بالأرض, واحتكار وراثة هذه الأرض ووراثة أن الشعب هم شعب الله المختار فقط في هذه الفئة من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ وهم بنو إسرائيل.
    هذه القضية التي كانت مسيطرة على أذهانهم، فلما جمعوا التوراة أيام عزرا وقبل ذلك وبعده، تعمدوا أن يحذفوها أو لم يذكروها أو لم يهتموا بها، المهم الذي حصل وما نراه أمامنا الآن هو أنه لا يوجد في التوراة الموجودة المتداولة حالياً ما يتحدث أو ما يشير إلى هذه الواقعة.
  2. الرد على شبهة في إلقاء إبراهيم في النار

    هل ذلك لأن هذه الآية غريبة في ذاتها كما يظن البعض؟! لو أن ذلك لأنها آية غريبة أو لم تصدقها عقولهم أو لم تتواتر لديهم ربما يقال ذلك، الحقيقة أن ذلك ليس بغريب؛ فإنه موجود من الأسفار المحفوظة والموجودة في التوراة الحالية في العهد القديم في سفر دانيال حادثة مشابهة مماثلة ليست لنبي من الأنبياء؛ وإنما لثلاثة من الشباب المؤمنين بالله تبارك وتعالى في أيام بختنصر؛ رفضوا أن يعبدوا إلا الله عز وجل, ورفضوا أن يتقربوا إلى الملك، ففي سفر دانيال أن هؤلاء الثلاثة جاء بهم الملك، فأوقد ناراً وألقاهم فيها؛ فجعلها الله تعالى عليهم برداً وسلاماً، فعجب الملك وذهل من ذلك وقال: مبارك الله.. مبارك رب هؤلاء الذين أنجاهم من النار, وكان هذا كأنه علامة إيمان لـبختنصر بعد أن رأى هذه الحادثة العجيبة.
    إذاً: جنس الحادثة ونوعها موجود في التوراة فلمَ يوجد هذا لأتباع الأنبياء ولا يوجد لخليل الرحمن؟! وهو لا مقارنة بينه وبين هؤلاء! التساؤل هذا يثور عندما نتأمل ونتعجب أن هناك انتقائية في كتابة ما يريد هؤلاء أن يكتبوه, وفي حذف أو تحريف ما يريدون أن يحذفوه أو يحرّفوه، على أن المصادر الأخرى غير الموجودة والمعروفة الآن -وهي المصادر التي يمكن أن نعتبرها شروحاً, ومنها المدراش أو المدرسة أو الشروح التي تضعها الأحبار والرهبان على التوراة وعلى الكتاب المقدس- نجد أن الحادثة والقصة مذكورة فيها، فإذاً ما معنى ذلك؟
  3. تحريف الأحبار لحادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار

    نستطيع أن نقول: إن الأحبار والرهبان الذين كتبوا التوراة أنزلوا هذه الحادثة من المتن إلى الحاشية؛ لأنه لا يمكن أن تكون هذه الحادثة العظيمة غير موجودة في الأصل أو لم تكن فيه أو لم يخبرهم بها الأنبياء، إيراد القصة في الشروح دليل على أنها واردة عندهم؛ ولكنهم أنزلوها من المتن إلى الحاشية, ومع الزمن بقيت في بعض الحواشي دون بعض، فهنا جاء الإشكال عندما تجد أن هذه القصة موجودة لدى بعض الفرق، لم يكن التساؤل -من المستشرقين اليهود وغيرهم من دارسي الكتاب المقدس- ولم يكن الإشكال: لماذا حرفها أولئك؟ لماذا حذفوها؟ لماذا أخروها؟ الغرابة عندهم والإشكال هو: لماذا احتفظ بها هؤلاء؟ أو لماذا أوردها هؤلاء؟
    فقالوا: إذاً: الكتب التي من المدراش التي أوردت هذه القصة في بيئة عربية، وبعضها من لغة عربية وفي بيئة الشرق الأوسط، فهذا في نظرهم من وضع اليهود بعد الإسلام اقتبسوا القصة من القرآن! سبحان الله!
    كيف تحولت القضية إلى العكس تماماً؛ مع أنه لا يضر اليهود ولا غيرهم أن يأخذوا شيئاً من القرآن, وأن يعترفوا بأحقيته؛ لكن هم لكي يقولوا لبني إسرائيل: إن هذا لا أصل له, وإن الأصل الذي في التوراة هو الصحيح، قالوا: إذا هذا الذي نقل هذه الحكايات عن قصة النار أخذها من القرآن أو الفرقة التي تؤمن بها أخذتها من القرآن، فمعنى ذلك -القرآن عندهم غير مؤمن به- لا تؤمنوا به، إذاً فماذا بعد ذلك؟ ماذا تكون النتيجة؟! هل في هذا نتيجة يرتفع بها مقام الخليل عليه السلام؟! أو يرتفع بها مقام التوحيد أو النبوة أو الألوهية؟! لماذا تنفى هذه الحادثة؟ أو لماذا يحرص هؤلاء على أن يؤولوها وأن يحرفوها؟
    لا شك أن هذا منهج غير علمي على الإطلاق، وأن الحقيقة الثابتة في هذا هو أن القوم قد وضعوا نصب أعينهم ما يتعلق بالميراث؛ ميراث الأرض, وميعاد الأرض, وبخصوصية شعب بني إسرائيل، وتجاهلوا ما عداها وإن كانت دلالته أعظم, وأهميته أكبر فيما يتعلق بمقام الألوهية وبمقام النبوة وبحقيقة التوحيد.
    فلذلك نجد ممن ناقش هذه القضية الأستاذ العقاد في كتابه إبراهيم أبو الأنبياء يقول: إذا كان في مدراش رباه يسمونه مدراش رباه ويسمون الملك الذي دار النقاش معه النمرود ، ويأتي ينقل قصة أو حادثة ليست موجودة في المصادر الإسلامية كمقدمة لموضوع الإلقاء في النار، الجدل مختصره: لماذا لا تعبد النار؟ فيقول: لأن الماء يطفئها, إذاً: لماذا لا تعبد الماء؟ فيقول: الأولى أن نعبد السحاب الذي يحمله, لماذا لا تعبد السحاب؟ قال: لأن الريح هي التي تقذفه وهكذا..
    هذا لا مصدر له من القرآن ولا من السنة، بمعنى: أنه لو وجد في مصادرنا الإسلامية لقلنا: هذا من الإسرائيليات، فهذه أول مقدمة تدل على أن القضية موجودة لديهم وليست منقولة عنا.
    ثم بعد ذلك ينقل العقاد كيف أن الملك تشاور هو وقومه واتفقوا على إحراقه وإلقائه في النار من منجنيق بعيد مخافة ألسنة النار البعيدة, وضرع الملائكة إلى الله أن ينجيه فأذن لهم -سبحان الله! الملائكة تضرعت إلى الله تبارك وتعالى أن ينجي خليله وعبده هذا الفتى المؤمن الموحد!- أن يعملوا لنجاته ما يستطيعون؛ ولكنه أبى أن يعتمد في نجاته على أحد غير الله.
    الخليل عليه السلام أبى -كما في المصادر الإسلامية- قال لجبريل عليه السلام عندما قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا, والثابت أنه عليه السلام قال: حسبي الله ونعم الوكيل, ونعم بها من كلمة عظيمة؛ فلما قالها تولى الله تبارك وتعالى إطفاء النار وإنقاذه منها، وأمر بقوله: (( كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ))[الأنبياء:69], بدون أن يتدخل في ذلك أحد من خلقه لا من الملائكة ولا من غيرهم.
    ثم يكمل العقاد نقله فيقول: وإذا بالجمر من حوله كأنه فراش من الورد والريحان, هذا في مدراش رباه , ثم يكمل الحكاية عنه ويقول: ولم يصدق النمرود أنها معجزة من الله؛ بل قال لإبراهيم: إنها من سحرك وحيلتك -وهذا شبيه بكلام فرعون مع موسى- أما الأمراء والوزراء والحاشية فخذلوا الملك وآمنوا برب العالمين, وآمنوا برب إبراهيم عليه السلام.
    فالحكاية والقصة إذاً موجودة, والدلائل أو القرائن التي فيها تدل على أنها لم تؤخذ من مصدر إسلامي؛ فليس في القرآن الكريم المناظرة الأولى التي قبل الإلقاء في النار بهذا الشكل, وليس في القرآن الكريم أن الملك قال: هذا من سحرك وحيلتك, ولا أن الملأ آمنوا، إذاً: هذا يدل على أنها كما هي في التاريخ الإسرائيلي القديم لدى من احتفظ بهذه الحادثة موجودة، كما أنها موجودة أو مذكورة في بعض الآثار التاريخية الأخرى على أنها أعجوبة, وآية من آيات الله تبارك وتعالى، تدل على هذا المقام العالي والعظيم من مقامات التوحيد الذي اختص الله تبارك وتعالى به خليله إبراهيم عليه السلام.
  4. سبب حذف حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار من التوراة

    فإذاً: حينئذٍ من حقنا أن نفترض ونقول: إذا كان الذين كتبوا التوراة تعمدوا حذفها وإنزالها من المتن -الذي كان يفترض أن يكون لدينا الآن في الترجمة السبعينية أو غيرها- إلى الحاشية أو إلى الشروح ثم يُنحّى ويُقصى شيئاً فشيئاً، فمعنى ذلك: أن التأثير النفسي؛ تأثير العنصرية أو تأثير التعلق بالأرض وبالتراب وبالذهب وبما يقولون: إنها تفيض لبناً وعسلاً وما أشبه ذلك، هذا التعلق هو العقيدة الدافعة الأصلية التي تسيطر وتهيمن دائماً عليهم عندما يكتبون ما يكتبون أو يحررون ما يحررون؛ فيحذفون ويحرفون في كلام الله تبارك وتعالى وفي أخبار أنبيائهم.
    هذه الحقيقة الواضحة -أيها الإخوة- نجدها عندما نستعرض كتب الأنبياء من حزقيال أو أشعياء أو أرمياء وغيرهم إلى آخر الأنبياء -البضع والعشرون سفرا ًكثير منها منسوبة إلى الأنبياء- نجد هذه الظاهرة؛ أن كل نبي ينعى على قومه ويصرخ في وجوههم قائلاً: لقد عبدتم المنحوتات, لقد عبدتم المسكوكات, لقد انتكستم في عبادتكم لغير الله تبارك وتعالى، ولكن هذا يمضي ولا فائدة فيه! يعني: سواء قال: إن الله أمرنا أن نبلغكم -كما في بعضها- أو هو أنكر عليهم فالكلام يمضي والانحراف يستمر ويتراكم؛ حتى أنهم -كما رأينا- نسبوا إلى الأنبياء الكرام أنهم من دعاة الوثنية؛ كما حدث في نسبة صناعة العجل الذهبي الرب المزعوم إلى هارون عليه السلام نفسه، وكما حدث لسليمان عليه السلام حين نسبوا إليه أن الآلهة عُبدت في بيته، وأن نساءه من الأجنبيات ومن الأمميات من الأقوام الوثنية, فجعلوه يرضى بهذه العبادة الوثنية في بيته.
    هذه الحادثة عندما نتأملها لا تُلقي ظلال الشك على قصة الخليل وحده, وإنما على كثير مما في التوراة ، مما لا يقبل التعليل والتعليق أو التأمل العقلي, أو التاريخي الصحيح العلمي الموضوعي المتجرد يرفض هذا الحصر, وهذا الحكر, وهذه القومية وهذا العنصرية، ولا يجد حلاً لكثير من الثغرات الموجودة في هذا الكتاب أو في قضاياه التاريخية التي يعرضها.