المادة    
إذاً: نرجع إلى إكمال ما يتعلق بـ ملكي صادق من المصادر الكتابية النصرانية في القديم والحديث، الحقيقة أنه شيء مؤسف أن نجد دوائر المعارف الكتابية -هي عدة دوائر أو معاجم وقواميس- يكتبها عرب من مصر ومن لبنان يجيدون اللغة العربية, والمصادر الإسلامية من القرآن الكريم وغيره بين أيديهم وفي إمكانهم أن يتأكدوا أو يمحصوا أو يدققوا أو يقارنوا، ومع ذلك يضرب بهذا كله عرض الحائط, ويترجم معظم ما يقولونه من مصادر غربية بعيدة جداً عن التلقي وعن المصادر الإسلامية، لو عذرنا الغربيين فقد نعذرهم بأنهم لا يجيدون العربية ولا يفقهونها, ولا يستطيعون الوصول إلا لبعض المصادر؛ لكن كيف نعذر هؤلاء وهم في بيئة إسلامية, وهم يرون تردد ذكر اسم إبراهيم عليه السلام وقصته العجيبة في الخطب وفي المناسبات, ويتلى القرآن في كل مكان! فعجب لهؤلاء القوم حقاً! وإننا نأسف أن يكون هنالك من يدعي التدين أو البحث عن الحقيقة في المنهجية العملية الصحيحة, عن مصدر المعرفة الصحيح, ثم يغضوا النظر ويضربوا صفحاً بشكل مطلق عن أعظم كتاب, وعن أعظم هداية, ويستهين بهذه العقول الإسلامية في القديم والحديث وغيرهم، حتى إن من المستشرقين من شهدوا أنه لم يأت في القرآن الكريم ولا في الحديث الصحيح ما يناقض العلم على الإطلاق, ولا ما يناقض الحقائق التاريخية على الإطلاق.
فهلا كان شيئاً من المقارنة بدلاً من أن يقارن باكتشاف أو حجر يترجم من لغة إلى لغة وإلى أخرى, ويحتمل عدة احتمالات كما يفعلون دائماً!
شيء مؤلم على أية حال؛ لكن الذي يكشف أن هذا المنهج خطأ من كلام أصحابه هو النتائج التي يتوصلون إليها، فعندما يتحدثون أن ملكي صادق كان أفضل وأعلى رتبة من إبراهيم عليه السلام كما في دائرة المعارف الكتابية المادة نفسها, يقولون: فقد كان ملكي صادق أعظم من إبراهيم جد لاوي .
يقولون ذلك على أساس أن المسيح عليه السلام في نظرهم هو مذكور في المزامير , وهو الذي قال له الله: إنه كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق , وبالتالي يكون ملكي صادق أفضل من إبراهيم ويصرحون بذلك، وكونه أفضل من إبراهيم عليه السلام, فهذا يدل على أن كهنوت المسيح عليه السلام أفضل من كهنوت لاوي, أي: الكهنوت اليهودي الإسرائيلي من ذرية هارون عليه السلام.
فـ النصارى أخذوا الموضوع من جانب تفضيل كهنوت على كهنوت, ولم ينظروا إلى النبوة, وإنما كعادتهم في الغلو، فبدل أن يثبتوا أن المسيح عليه السلام رسول أفضل من الخليل عليه السلام -فرضاً لو ساغ ذلك- لكن هم قالوا أعظم من ذلك -مع الغلو الذي لديهم- قالوا: إن رتبة ملكي صادق أعظم من كهنوت هارون, وبالتالي فإن كهنوت المسيح الذي على هذه الرتبة هو الأفضل ما دام ملكي صادق أفضل من إبراهيم؛ لأنه متعلق بكونه إلهاً -لما فيه من الألوهية تعالى الله عما يصفون- فأصبح هذا مدخلاً لتبرير عقيدة ألوهية المسيح عليه السلام, وهي عقيدة بدعية مفتراة, ليس في العهد القديم ما يدل عليها, ولا حتى في كتب العهد الجديد ما يقتضيها صراحة -كما سنبين إن شاء الله ونوضح ذلك بإذن الله إذا أتينا على هذا الموضع- لكنها عقيدة كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ))[التوبة:30], وهم قدماء العالم, وقدماء المشركين في مصر وفي الهند وفي سبأ وفي غيرها.
فعقدية التثليث عقيدة وثنية قديمة لا يمتري في ذلك أحد من المؤرخين الذين أرخوا لتاريخ هذه الأمم القديمة، فلا شك أنها عقيدة قديمة ورثها هؤلاء, وأدخلوها بعد مدة من رفع المسيح عليه السلام, وانتهاء شأنه في هذه الأرض؛ فاخترعت وركبت وأدمجت هذه العقائد الوثنية القديمة, وأصبحوا بعد ذلك يؤولون أي قصة يجدونها بما يناسب هذه العقيدة المبتدعة الباطلة؛ ومن ذلك ما يتعلق بقضية ملكي صادق وعلاقته بإبراهيم الخليل عليه السلام.