لكن نقف هنا عند قضية ما أشرنا إليه في اللقاء الماضي: وهي أن إبراهيم عليه السلام تأتي قصته في القرآن لتبيّن هدايته, وما أعطاه الله تبارك وتعالى من العقل والحكمة والفطرة القويمة السليمة العالية حتى قبل النبوة، مما يظهر وكما رجحنا ويترجح والله تبارك وتعالى أعلم من قصة سورة الأنعام والنظر في الكواكب؛ أن إبراهيم عليه السلام لم يكن قد أوحي إليه بعد؛ فإن الله سبحانه تعالى لو أنه قد أوحى إليه أن ينذر قومه وأرسله إليهم، لما قال: هذا ربي ثم هذا ربي ثم هذا ربي، وإن قيل: إنه يفعل ذلك على سبيل الجدل, وإنما الذي يظهر ويرجحه أكثر ما في سورة الشعراء من أنه لم يذكر -هنالك في سورة الشعراء- الإحراق بالنار, ولم يذكر عن الأصنام إلى أنها عدوة له: ((
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ))[الشعراء:77-78]؛ فهذه مرحلة فيما يبدو لنا ونرجحه والله تعالى أعلم مرحلة قبل أن يؤمر ويوحى إليه ويبلّغ.وقلنا: قد يرجح ذلك أو قد يعين عليه كلمة فتى, وهذا على أية حال هو على سبيل الترجيح, والقصة في القرآن الكريم إذا تأملها المتأمل من جميع السور يمكن أن يخرج منها بخلاصة عجيبة في غاية العجب؛ وهو أن هذا القرآن في القمة من البيان والبلاغة, ومن التفرد والتميّز العجيب؛ ففي كل سورة من السور تكون مناسبة من قصة إبراهيم عليه السلام في موضع فقط أو مقطع, ويأتي متسقاً مع سياقها ومع أحداثها؛ سواء كان تاريخياً قبل أو بعد، ولذلك إن شاء الله تبارك وتعالى سوف نأتي في حلقة مستقلة بإذن الله محاولة منا تقريبية لرسم شكل تاريخي من مجموع ما جاء في القرآن الكريم عن قصة إبراهيم عليه السلام، أحببت فقط أن ألفت لهذا؛ لأنه سبق في اللقاء الماضي حديث مجمل, وقد يثير بعض الإشكال واللبس, ثم بعد ذلك تبقى القضية محل نظر من الجميع، وهذا على كل حال كله من التدبر ومحاولة فهم هذا القرآن العجيب, القرآن العظيم الكنز الذي لا تنتهي عجائبه, ولا تنتهي أسراره وحكمه العظيمة التي تبهر العقول, وتبهج القلوب والألباب.