المادة    
وبهذه الحقيقة الواضحة النيرة الجلية نكذب -من جملة ما نكذب- دعاوى أن التوحيد تطور, وأن البشرية انتقلت شيئاً فشيئاً إلى أن عرفت التوحيد، والدعوى المزعومة التي تقول: إن أخناتون هو أول من وحّد, أو المقارنة بين ما قاله أخناتون وما قاله إبراهيم عليه السلام, ومن الذي أخذ من الآخر.. هذا كله كلام متهافت, ولا اعتبار له لا من حيث الحقيقة التاريخية ولا من حيث الإيمان الديني العميق الذي جاء في كتب الله تعالى.
كل ذلك لا اعتبار له؛ إنما يشار إليه ويذكر لكي نتنبه إلى أن مناهج التاريخ ومناهج كثير من العلوم والآداب والأديان والفرق والمقارنة وما أشبه ذلك في أكثر أنحاء العالم وحتى في العالم الإسلامي مع الأسف؛ أنها جميعاً تقوم على أن الدين تطور, وأن التوحيد تطور, وبالتالي يختلفون من الذي أثر في الآخر، ومن الذي علم الآخر؛ هل هو أخناتون أو إبراهيم عليه السلام! وكيف جاء التوحيد؟ وهل كان هذا التوحيد توحيداً مطلقاً مجرداً؟ أو كان توحيداً بمعنى: أن رباً أعظم ومعه أرباب من دونه تشترك معه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-!
هذه قضايا تمتلئ بها صفحات من كتب التاريخ ومن المعاجم الغربية، وتجرد لها باحثون غربيون كثير منذ حوالي مائتي سنة على الأقل, وكثير منهم تخصص بالذات في الكتابة عن إبراهيم الخليل عليه السلام، كان أكثر ما يهمهم ويشغلهم هو هذه المقارنات العقيمة السقيمة وهذا الهراء الذي لا قيمة له على الإطلاق، ونسوا أو تجاهلوا ما في القران الكريم عن عمد وعن قصد، وإلا فقد جاء في كتاب الله تبارك وتعالى أن هذا الرجل العظيم كان أمة وكان إماماً للناس, وأنه لم يكن من المشركين بأي حال من الأحوال، وأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً, وكيف يكون يهودياً أو نصرانياً (( وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ))[آل عمران:65], هذه من الحجج العقلية القرآنية القطعية العظيمة في إلزام أهل اليهود (( وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ))[آل عمران:65], لو كان هؤلاء يعقلون ويستخدمون المنهج العقلي والعلمي لما جعلوه يهودياً ولا جعلوه نصرانياً ولا جعلوه وثنياً أو تطورياً، ولآمنوا حق الإيمان بما أنزله الله تبارك وتعالى وجاء على لسان هذا النبي الأمي من الوحي، وهو أن إبراهيم عليه السلام هو فعلاً أمام الموحدين, وهو خليل الرحمن تعالى، وهو الذي أمرنا الله تعالى جميعاً أن نتبع ملته وألا نخالفه في ذلك, وأن نعظم الله تبارك وتعالى، وهو الذي دعا الله عز وجل أن تظل هذه الأمة وهذه البقية الباقية على التوحيد، وهو الذي أورث عَقِبَه وأوصاهم بكلمة لا إله إلا الله (( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ))[الزخرف:28].
وهو الذي دعا ربه تعالى أن يجنبه وبنيه أن يعبدوا الأصنام، إلى غير ذلك من المعاني العظيمة الجليلة الفائقة التي لا نظير لها إلا في كتاب الله تبارك تعالى، لا في الكتب المحرفة ولا في كتب المادين والملحدين، وغيرهم من قد يكنُّ شيئاً من الاحترام لإبراهيم الخليل عليه السلام؛ لكنها لا تصل إلى هذا المقام والرتبة العالية.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم في ختام هذا اللقاء الطيب المبارك أن يجعلنا وإياكم جميعاً على ملة أبينا إبراهيم, وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ إنه سميع مجيب.
والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.