على أية حال ليست القضية قضية التاريخ القديم؛ فلو اقتصر الأمر عليه فسيكون الأمر أخف، لكن الإشكال هو ما موقع رسالة الإسلام ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا التاريخ؟! في الحقيقة أن أي إنسان يتأمل فإنه يَعجب من حكمة الله تبارك وتعالى واختياره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختاره صلوات الله وسلامه عليه من العرب الذين لا يشك أحد من الأمم -بتواتر من حولهم وتواتر الأمة جميعاً- أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام، وفي المكان الذي لا يختلط فيه أحد من الأمم بغيرهم! هذه الجزيرة الطيبة المباركة التي لا تكاد تختلط بغيرها على الإطلاق -مع أنه قد يقع أحياناً على الشواطئ شيء من ذلك- وفي المكان نفسه، وفي البيت نفسه الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام تكون ولادته صلى الله عليه وسلم! فأمر صريح وواضح جداً لا إشكال فيه ولا شبهة بأي وجه من الوجوه، وبالتالي يأتي هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ويُبعث بدين عظيم جديد فيه جِدّة كل الجدة، فيه أحداث.. وفيه أخبار.. وفيه ما لم يتطرق له كتاب من قبل مطلقاً, وبالذات عن إبراهيم عليه السلام, والجدال يأتي فيه، وأخباره تأتي عليه السلام في سورة البقرة, وفي سورة آل عمران, وفي الأنعام والشعراء, -قصص كثيرة إن شاء الله قد نتعرض لبعضها؛ لكن ليس غرضنا التفصيل، وإلا فإن القصص القرآني من أروع وأعجب ما يكون- فقط أشير إلى قضية واحدة وهي أنك في كل موضع يُذكر فيه إبراهيم عليه السلام فإنما ذُكر لحكمة، فمثلاً: لماذا ذكر في هذا الموضع؟ لماذا تأتي قضية إمامته للناس وبناء البيت في المكان؟ نجد أن ذكره هنا لحكمة.ثم تأتي بعد ذلك محاجته الملك وإيمانه بالبعث لحكمة أخرى.. وهكذا.المقصود: أن هذا النبي العظيم تأتي له من الأحداث في القرآن ما لا ذكر له في
التوراة ؛ بل حتى القضية البسيطة التي يمكن أن يقولها بعض الناس؛ لماذا ينص على اسم أبيه كما في قوله تعالى: ((
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ))[الأنعام:74]؟ فنجد أنه نص عليه عمداً وقصداً, وإلا فلا يؤثر أن يكون أبوه من كان؛ أيَّ نبي من الأنبياء, أو أي إنسان, فالله تعالى يختار لهم أفضل الآباء؛ لكن لماذا يُنَص على الاسم؟ لأنه يراد منه تكذيب ما في
التوراة .فلو كان هذا النبي أو هذا القرآن يمكن أن يأتي تجميعاً مما عند الناس، أو يقتبس مما عندهم؛ فلم يجادل في أشياء تسبب له إشكالات مع
اليهود ومع أهل الكتاب, وكان من المكن أن يسلم بها، ولا سيما وهي لا تؤثر على الإطلاق, أما عندما يأتي فيوضح حقائق عظيمة عن هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه تخالف ما عندهم عمداً حتى فيما يتعلق بالنسب؛ فهذا دليل على أن هذا القرآن حق محض لمنزل من عند الله تبارك وتعالى، لا مجاملة ولا مداهنة فيه, ولا مراعاة لكل من انحرف وأخطأ وضل.