طبعاً من أهل الكتاب من ظل محتفظاً بالحق والحقيقة, وهؤلاء هم الذين كانوا ينتظرون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين لما عرفوا الكعبة المشرفة و
مكة المكرمة وجدوا أن الصفات المذكورة في كتب الأنبياء وما قبلها تنطبق جميعاً على هذه البلدة العظيمة، وأن ما ورد عن بنائها, وما ورد عن أبنائها, وعن العبادة فيها, وعن تعظيم الله تبارك وتعالى فيها, وعن القرابين التي تقدم إليها, وعن الملوك الذين يخدمونها, وعن الشعوب الذين يعظمونها, عن أنها العروس التي تحلى بأجمل أنواع الذهب والفضة, إلى آخر ذلك.وجدوه حقيقة, فلمَ التأويلات البعيدة هنا وهنا، وبالفعل النصوص التي تدل على أنها ليست هي
القدس واضحة، وتأويل
النصارى بأنها مدينة في السماء دليل على أنهم لم يقتنعوا بأنها في الأرض, وأنها هي هذه
القدس الموجودة فجعلوها في السماء، لمَ لا تكون أخرى وفي الأرض! ويظل الأمر على ظاهره؟! هذا الذي رأى هؤلاء المؤمنون الذين كانوا يعتقدون العقيدة الحقة في الله سبحانه وتعالى, أن هذه المدينة المعظمة والمقدسة سوف تأتي، وما زادتهم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا إيماناً وتصديقاً لما كان لديهم من أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فرأوا أن هذا الوحي بعضه يصدق بعضاً، هو حق يصدق حقاً؛ لكنه يبين ما أُجمل, ويوضح ذلك, ويقع مثلما تقع الرؤيا الصادقة التي تراها في المنام، أو يقع الخبر الصادق الذي تخبر عنه بأوصاف حقيقية ثم تراه في الواقع كما أخبرت به, وكما رأيته، ومن هنا كانوا كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم: ((
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146].وجاءت هذه الآيات ضمن إثبات النبوة للنبي صلى الله عليه وسلم, وضمن آيات القبلة؛ لأنهم أيضاً كانوا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى سوف ينقل القبلة, وينقل الدين, وينقل الوعود التي عندهم عن الشعب الإسرائيلي إلى أمة أخرى، وكثير من الوعود التي كانوا يؤولونها ويظنون أنها في
القدس تنقل إلى
مكة وتنطبق على
مكة .فلذلك هؤلاء لم يكن لديهم أي شك في هذا, وهؤلاء هم الذين لما ظهر الإسلام سارعوا بالدخول فيه وشهدوا على أقوامهم، واستشهد الله تبارك وتعالى بهم على بني إسرائيل بقوله تعالى: ((
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ))[الشعراء:197], وعلى غير بني إسرائيل؛ لأن هذه الحقائق الواضحة الجلية التي حتى الآن تقرأ في كتبهم لا يمكن على الإطلاق أن يجحدها أو أن ينكرها إلا مكابر.