المادة    
هنا إذا أردنا أن نفصل -على طريقتنا في التبسيط والتوضيح- المذاهب أو النظرات في هذه المسألة؛ فيمكننا أن نقول: ‏
  1. رؤية الفئة المؤمنة الموحدة

    إن الواضح في تاريخ البشرية جميعاً هو أن الفئة المؤمنة الموحدة، الذين يريدون عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له, والذين يحرصون على توحيد الله، ويريدون أن يروا هذا الإيمان -الذي يعلمونه ويعرفونه- منتشراً في واقع البشر, ويؤلمهم جداً أن يروا مظاهر الشرك ومظاهر الوثنية في الحضارات القديمة، وأن يروا هذه الوثنيات الطاغية؛ فلا يكاد بابلي أو آشوري أو آكادي أو غيرها من الشعوب المذكورة في التاريخ في العهد القديم أيضاً أو في غيره, لا يكاد يذكر إلا غير الله تعالى، يعبدون الأصنام.. يعبدون الأوثان.. يعبدون البشر والملوك، يصدقون العرافين والدجالين والكهنة.. يعبدون الكواكب والنجوم. فالتاريخ البشري بالنظر إلى الجاهلية هذه مظلم ومعتم جداً، فهؤلاء الذين يحترقون شوقاً إلى الخلاص الإيماني, وإلى الإيمان الحقيقي, وإلى أن يروا عبادة الله تبارك وتعالى تتحقق في هذه الأرض، يأتيهم العزاء والرجاء والأمل بأن الله تبارك وتعالى سوف يقيم مملكته أو ملكوته في هذه الحياة الدنيا بمن يأتي في آخر الزمان, ويظهر الله تبارك وتعالى على يديه الإيمان والتوحيد، ويدمر كل ممالك الشرك والكفر والطغيان التي على ظهر الأرض، ويحكم بالكتاب, ويحكم بالعدل, ويحكم بالرحمة, ويعظم جميع الأنبياء, وعلى يديه تبعث حياتهم، يعني: يبعث تاريخهم.. وتبعث آثارهم الطيبة.. وتبعث مآثرهم بعد أن راحوا في الأمم وتفرقوا؛ إما أهملوا في التاريخ, وإما قتلوا, وإما حرفت شرائعهم, إلى غير ذلك من المشكلات التي هي واضحة وظاهرة في التاريخ البشري.
  2. رؤية الماديين

    هنا عند هذه القضية تختلف هذه المناهج، فمثلاً: لو نظرنا إلى التفكير المادي البحت -الذي ظهر من ثلاثة قرون تقريباً في أوروبا- نجد أن نظرية من يخلص أو من ينقذ البشرية أو من يقيم ملكوت الله ومملكة الله تعتبر عندهم نوعاً من التعويض النفسي؛ فهي قضايا نفسية فقط، وتصورات تصورتها الشعوب المضطهدة, فهي تعوض عن واقعها المؤلم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كما إذا أخذنا اليهود نموذجاً: ما عانوه في بابل بعد السبي, وما عانوه من الشتات والفرقة، كما هو مذكور في المزامير وفي غيرها: إنك يا رب! جعلتنا كغنم للذبح, وأن العار يغطي وجوهنا أينما اتجهنا. فهناك حسرات وأحزان متتابعة نجدها في مثل هذه المزامير, وكذلك في مراثي أرمياء وفي غيرها من مواضع التوراة تدل على المعاناة الشديدة, والمحن المؤلمة القاسية التي تعرض لها هذا الشعب.
    فعلى ذلك يرى هؤلاء الماديون أن الموعود به من الخلاص، ومن ظهور مملكة الله، ومن الأمل الذي يأتي في آخر الزمان هو اختلاق داخل نفسية المجتمع الإسرائيلي؛ اختلقوا ذلك لكي يتخلصوا من واقعهم, ولكي يخرجوا من ضيق الواقع إلى رحابة الأمل الخيالي الذي تخيلوه وافترضوه، وهو لا حقيقة له.
    مختصر هذه النظرة هو هذا, ويضربون على ذلك مثالاً: بأن أي إنسان في هذه الحياة يعيش حالة من الإحباط واليأس والقنوط؛ فإنه يعمد إما إلى تناول المخدرات الحسية, وإما أن يظل يسبح في خيالات وأوهام الثروة والغنى والجاه وما أشبه ذلك، كما يفعل أحياناً بعض الشعراء حين يلجئون إلى الشعر أو غير ذلك؛ لكي يعيشوا في فسحة الأمل الوهمية أو المتخلية التي لا يبررها إلا الواقع الصعب المر الذي يعيشونه ويعانون منه.
    باختصار هذه هي النظرة المادية لنظرية المخلص الموعود به, وسوف نأتي إن شاء الله بالرد عليها تفصيلاً؛ لأن الرد عليها هو رد من خلال الواقع الهائل الذي حدث بعد ذلك, والذي يكذب هذا المقال سواء اعترفوا هم أو لم يعترفوا بهذه الحقائق؛ لكن المقصود هو هذا.
  3. رؤية أهل الكتاب والأمم الأخرى

    بالنسبة لأهل الكتاب فقد كانت الفكرة عند بني إسرائيل واضحة جداً, وتعترف بذلك الكتابات النصرانية المتأخرة, كما في دائرة المعارف الكتابية؛ أن هنالك مُخلّصاً سوف يظهر وينقذ العالم البشري والإنساني؛ لكن دخل التحريف عندهم؛ بأن الخلاص سيكون لشعب إسرائيل فقط!
    وهم كالعادة حرفوا وضيقوا دين الله تبارك وتعالى, وضيقوا شرع الله, وأمره, ووعوده؛ بأن جعلوها محصورة في الشعب الإسرائيلي؛ فجعلوا كأن الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى دين قومي أو قبلي ولا علاقة لبقية الشعوب به.
    في واقع الأمر أننا يمكن أن نجد في التاريخ العام للبشرية في الهند أو في الصين أو في الشعوب الإيرانية وغيرها؛ أننا نجد انتظار الرجاء والأمل الموعود والمملكة التي تقوم في آخر الزمان أو الجنة أو على أي تأويل من التأويلات؛ أننا نجدها ظاهرة عند جميع الشعوب حتى التي لم تضطهد؛ لأن الأمر -كما قلنا- هو أمر الاضطهاد الديني أو الشعور بأن ما يُفعل في الأرض هو شر لا ينسجم مع الفطرة, أو مع الإيمان أياً كان هذا الإيمان عند من يتخيلوه.
    وهذا لأن هناك بقايا من علم موروث تأتي فتؤيده وتشجعه فيظل متداولاً مستمراً، علم موروث عن الأنبياء الأوليين وعن الآباء، وكذلك واقع يدعو ويحفز إلى أن تؤمن به, وأن تعتقده، فهو ظاهرة وسمة إنسانية مشتركة عند جميع الشعوب, وليس فقط عند الشعب الإسرائيلي، وإن كان بنو إسرائيل تعرضوا ربما أكثر من غيرهم للأذى والاضطهاد والتشتيت والتدمير, لأسباب لا علاقة لها بموضوعها الآن.
    على أية حال نحن نجد أن الهندوس يعتقدون بظهور هذا المخلص -وإن شاء الله نأتي بشواهد من كتبهم في حينه عند الكلام بالتفصيل عن بشارات النبي صلى الله عليه وسلم - المجوس الزرادشت؛ الذين ينتسبون إلى زرادشت يعتقدون بأنه سوف يظهر سوشن أو ثوثن -كما تختلف اللهجة فيه- الذي هو المنقذ والمخلّص الذي يخلص الشعوب الإيرانية من الاضطهاد, والذي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً وظلماً، وهذا بالذات موجود, وكثير من المعاني أو الصفات التي تطلقها الزرادشتية أو تلبسها عليه موجود في عقيدة الفرقة الاثنا عشرية -على ما سيأتي إن شاء الله تبارك وتعالى- نقلوا واقتبسوا منها الكثير، فعندما دخلت هذه الشعوب في الإسلام إما حقيقة؛ لكن مع ضعف في الفهم، وإما نفاقاً كما دخل بعضهم فألبسوا بعض هذه العقائد القديمة لباساً إسلامياً جديداً؛ فأصبحت الصفات المتشابهة لمن يسمونه المهدي المنتظر أقرب ما يكون إلى المخلص أو المنقذ في الفكر الإيراني المجوسي القديم.