المادة    
الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى سائر الأنبياء المختارين المصطفين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المشاهدون! فقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن الأنبياء كما هو الموضوع النبوة، ورأينا مقدار نبوتهم, ومدى الاحترام الذي يحظون به في الإسلام, ولا يحظون به عند أهل الكتاب، وكان الحديث عن هارون وداود عليهما السلام, ووعدنا بأن نستكمل إن شاء الله في هذا اللقاء ما يتعلق بسليمان عليه السلام.
ونعود فنذكر أننا حتى الآن لا نؤرخ لتاريخ الأنبياء، وإنما نؤرخ فقط أو نتحدث عن تاريخ النبوة أو عن حقيقة النبوة عند أهل الكتاب، هذا المنهج المحرف حيث ابتليت الأمة؛ بل البشرية جميعاً بأن يأتي مثل هؤلاء فيحرفوا كلام الله تبارك وتعالى, ويفتروا على الله الكذب, وعلى أنبيائه الزور والبهتان.
سليمان عليه السلام أشهر وأعظم الأنبياء عندهم بعد موسى عليه السلام, وترتبط الشهرة عندهم بالغنى والثروة والملك، ومع ذلك كله فإنهم لا ينظرون إليه عليه السلام على أنه نبي مكرم, وعبدٌ صالح, آتاه الله تبارك وتعالى الملك, فسخر ذلك الملك والقوة والسلطان لتوحيد الله وعبادة الله وطاعة الله، وإنما ينظرون إليه كما نظروا إلى أبيه من قبل على أنه ملك؛ بل إن التشويه الذي لحق أباه يلحقه -كما أشرنا- من جهة النسب الأول القديم, ومن جهة نسب سليمان عليه السلام نفسه أكثر؛ لأن أمه عندهم -كما يزعمون- هي بات شبع التي كانت زوجة أورويا الحثي , وكما ذكرنا في اللقاء الماضي ما نسبوا إلى داود عليه السلام من الاحتيال والخديعة للحصول على زوجة قائده أورويا الحثي وامتلاكها لتكون زوجة له.
نجد حتى في هذه المسألة -وهي لا تتعلق بالنبوة؛ ولكن لأن أمهات الأنبياء وأنساب الأنبياء معظمة- نجد أيضاً هنا في الإسلام ذكراً لأم سليمان عليه السلام؛ حيث روى ابن ماجه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قالت أم سليمان عليه السلام: يا سليمان! لا تكثر النوم بالليل؛ فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيراً يوم القيامة), فلها ذكر في ديننا؛ أنها امرأة صالحة, تحث ابنها -مع ما آتاه الله تبارك وتعالى من ملك- على العبادة, وعلى الخير, وعلى الصلاة.
  1. تشويه اليهود لسليمان من جهة البيئة التي ولد فيها

    أول ما يبتدئ اليهود بهذا التشويه من جهة أبيه, وأنه ورث عن أبيه الاستبداد، وأن البيئة التي ولد فيها ورباه أبوه فيها كانت بيئة أحقاد وضغائن.
    فمثلاً: يذكرون أن أبناء داود عليه السلام تقاتلوا، وأن التنافس بينهم كان شديداً، وأن إخوة سليمان الأكبر منه قُتلوا؛ بل يذكرون أن إحدى أخواته اغتصبت -يعني: ابنة نبي الله داود عليه السلام- وشناعات كثيرة في تربية ونشأة سليمان عليه السلام، فكأنه نشأ في هذا البلاط الذي لا يختلف عن بلاط أي ملك من ملوك الأرض فيه من الدنس, وفيه من البغضاء, وفيه من التقاتل, وفيه من التنافس على الدنيا ما فيه.
  2. تشويه اليهود لسليمان بكونه حرص على الملك

    ثم بعد ذلك تأتي قضية الصراع على هذا الملك, بمعنى: أن سليمان عليه السلام عندهم حاول مبكراً ولاحقاً أن يقضي على إخوانه, وأن يقتلهم فيستأثر دونهم بالملك, ولا سيما أخاه الذي هو أدونيا, حيث استطاع سليمان في النهاية أن يتخلص منه, وأن يأمر من يقتله, بعد منافسة شديدة على الملك، كما يحدث أيضاً في بلاط ملك من ملوك الدنيا في تلك الأيام أو فيما بعد.
    ولذلك لا عجب أن نجد قاموس الكتاب المقدس يعرف هذا النبي العظيم فقط من ناحية الملك, فيقولون: هو ابن الملك داود, وهو كان أعظم ملك، وقد ملك أربعين سنة.
    فأهم قضية عندهم هي أنه ملك، ثم تأتي إشارات إلى نبوته كما في قولهم: إنه رأى حلماً في المنام، وفي دائرة المعارف الكتابية يقولون: إن له مقابلات مع الله أو ما أشبه ذلك؛ لكن السيرة العامة له هو أنه ملك، وما يتحدثون عنه من مظاهر الملك والأبهة والفخامة هذا أيضاً مستفيض في الكتاب المحرف الذي تحدث عن سليمان عليه السلام، وحتى بناء بيت الله -المسجد الأقصى- يتكلمون عنه على أنه بناء عظيم للهيكل، فيتكلمون عن الأبهة والفخامة, ولا يتكلمون عن المضمون؛ وهو عبادة الله تبارك وتعالى وتوحيده إلا لماماً.
  3. نظرة اليهود لسليمان من جهة الثروة والمال

    فالقضية أننا نجد سيرة سليمان عليه السلام مشبعة ومثقلة بتفكير الأحبار والرهبان، والذين جاءوا من بعدهم من كهان وأشباههم، وهو التشبع بالنفسية الجشعة التي لدى هؤلاء الأقوام من بني إسرائيل؛ نفسية متعطشة للدنيا، نفسية تعشق الملك, نفسية تعشق المال والذهب والتجارة والمراكب الفخمة والخيول والأبنية العظيمة وما أشبه ذلك، حتى أنهم شبهوه برمسيس الثاني؛ الذي هو فرعون في كثرة ما بنى, وتسخير آلاف العمال لبناء الفخامة والملك والمجد، دون أن نجد أي شيء يذكرنا بأنها سيرة نبي عظيم من أنبياء الله تبارك وتعالى، جعله الله تبارك وتعالى قدوة في تسخير الملك والمال والغنى والثروة والسلطان في طاعة الله عز وجل، كما جعل أنبياء آخرين وأعظمهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم قدوة للخلق في الزهد والعزوف عن الدنيا والتواضع والرحمة والمسكنة؛ فـ(كان صلى الله عليه وسلم قد أثر الحصير في جنبه), و(كان صلوات الله وسلامه عليه يأكل كما يأكل العبد, وينام كما ينام العبد ). فكان عبداً رسولاً, بينما كان سليمان عليه السلام ملكاً رسولاً، وعلى هذين المحورين تدور دائماً النفوس الإيمانية، فالنفوس الإيمانية في البشر جميعاً من قديم الدهر وفي حديثه هم: إما غني شاكر, وإما فقير صابر، إما زاهد في الدنيا راغب عنها, ويتعبد الله تبارك وتعالى بذلك، وإما أوتي حظاً في الدنيا؛ لكن يسخره لطاعة الله تبارك وتعالى، فيجمع بين الطائفتين الطاعة والعبادة والتقوى, وكل منهما يأخذ بحظه من الدنيا كما كتبه الله تبارك وتعالى له، وكما اختار له.
    هؤلاء الذين كتبوا هذه الأسفار وحرفوها لا يأتي في فقههم أو في نظرهم هذه المعاني العظيمة التي تحدث عنها على سبيل المثال والمقارنة فقهاء الإسلام، ولا نعني الفقه العملي؛ أي: فقه الأحكام.. فقه العبادات؛ لكن نعني: فقه أعمال القلوب، حتى أنهم ذكروا أيهما أفضل الخلافة أو الملك؟ وتقريباً لا يوجد خلاف في أن الخلافة أفضل من الملك؛ لكن تكلم بعضهم عن جواز الملك وعدم جوازه؟ والصحيح أن الملك جائز؛ لكن بشرط أن يكون ملكاً مسخراً لدين الله تبارك وتعالى، وبالتالي نجد أثر هذه الوراثة النبوية في الصحابة.. ونجدها في العباد.. ونجدها في أئمة الإسلام.
    فمثلاً: نجد في حياة أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه كان زاهداً؛ لكن كان لديه مال؛ وفي المقابل عثمان رضي الله تعالى عنه و الزبير بن العوام و عبد الرحمن بن عوف وغيرهم كانوا ممن أنعم الله تبارك وتعالى عليهم وتوسعوا في الدنيا؛ بل نجد في عصر الزهد الذي تميزت فيه الصفات, وأصبحت الكتابة فيه عن الزهد, كما كتب وكيع وكما كتب الإمام أحمد وكما كتب عبد الله بن المبارك وغيره، نجد أن العلماء الأئمة -أئمة اليقين والتقوى والزهد- يشملون هذين النوعين، من أخذ جانب العبودية والزهد بمعنى: الاقتداء بالنبي العبد, ومن أخذ -مع أنه زاهد- جانب الاقتداء بالنبي الملك، وكلاهما كانوا على درجة من اليقين والتقوى, والخير والصلاح.
    فنجد مثلاً: عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه كان يشبّه بالملوك في حياته, ونجد الليث بن سعد وكذلك أيوب السختياني وغيرهم من الأئمة في العباد والعلم والجهاد؛ لكن كانت حياتهم حياة توسع مما أعطاهم الله, وينفقون على إخوانهم أيضاً، وفي الوقت نفسه نجد مثل: الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه والأئمة الآخرين -طبعاً وهم الأكثر في هذا الشأن- من أئمة الإسلام كانوا يتقللون من الدنيا بقدر الإمكان.
    المقصود: أن هذا المعنى العظيم الذي لا يفقهه هؤلاء القوم لا نجد له ذكراً لديهم؛ بل تنحى كتاباتهم في القديم والحديث عندما حرفوا الأسفار والكلام -كما في سفر الملوك وغيره عن سليمان عليه السلام, أو عندما كتبوا ويكبتون الآن- تنحى منحى الملك والأبهة والعظمة والفخامة البعيدة عن التقوى والمجردة عنها, كما سننقل بعض كلامهم.
    إلى حد أن إحدى الروايات الأدبية المشهورة في اللغة الانجليزية عنوانها: كنوز الملك سليمان -هذه من العصر الكلاسيكي- وأصبحت مثلاً عاماً لمن يريد أن يكتب؛ فيتكلم عن كنوز الملك سليمان, يتكلمون عن زوجات الملك سليمان, ويتكلمون عما هو أشنع مما سنذكره الآن إن شاء الله تبارك وتعالى.