إذاً: نرجع إلى كيف تناول كاتبوا العهد القديم ما يتعلق بسيرة موسى وهارون عليهما السلام من هذه الزاوية أي: من حيث معنى النبوة.في الحقيقة أننا نجد أن الملحوظة التي تحدثنا عنها في الحلقة الماضية لا تزال قائمة؛ وهي أن الفرق بين النبي وبين الكاهن لا يكاد يذكر، فعندما يبدءون بهارون -باعتبار هارون عليه السلام أكبر من موسى عليه السلام كما يقولون, وكما تثبت رواية العهد القديم- فالكلام عنه هو كلام عن أي كاهن, وأن مرتبة الكهنة أخذها باعتبار السن، ثم بقيت وراثة في ذريته من بعده؛ وهم
اللاويون؛ فهم كهان في نظرهم, ولا نكاد نجد ذكراً للنبوة, بل لم نجد ذكراً لنبوته!بخلاف ما نجده واضحاً جلياً في القرآن الكريم؛ بأن الله تبارك وتعالى أكرم نبيه موسى عليه السلام ورحمه بأن جعل معه ((
أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ))[مريم:53], فهما نبيان كريمان ويتلقيان من الله تبارك وتعالى، والله عز وجل يثبتهما بأنه معهما يسمع ويرى, ويسدد خطواتهما مرة بعد مرة، وهذا لا نكاد نرى له أثراً إلا في بعض الأحداث التي يوردها العهد القديم؛ لكن أصل نبوة هارون عليه السلام لا نقول فقط: لم يثبتوها؛ بل ذكروا ما ينافيها منافاة مطلقة, مثل قولهم: إن الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يخاطب موسى عليه السلام, وذهب بقومه، وكان الموعد ثلاثين ليلة، فاستبطأه قومه فحدثت إشكالية أنه استبطأ القوم، وحدثت إشكالية أخرى وهي: أن بني إسرائيل جمعوا من الحلي ومن الذهب ما ردموه وجعلوه في حفرة، فاستطاع
السامري أن يصنع لهم عجلاً, وهم ينسبون ذلك صراحة إلى هارون؛ أنه استجاب لبني إسرائيل وصنع لهم عجلاً! وهذا نص ما جاء في سفر الخروج: صنع هارون عجل الذهب وبنى له مذبحاً.فهم يقولون: إنه هو الذي صنع العجل, وبنى له مذبحاً, وجعل بني إسرائيل يعبدونه, ورضي بأن يعبد من دون الله تعالى! وهذا إفك مبين, وهنا نجد أننا لا بد أن نشير إلى عدة قضايا في الحقيقة مهمة جداً.القضية الأولى: أن هذا الموضوع من أهم الموضوعات التي يمكن لطلاب العقيدة وطلاب البحوث التاريخية وحتى طلاب الأدب؛ أن يقارنوا ما بين القرآن الكريم وما بين هذه الكتب المحرفة في قضية السمو والإيمان والأسلوب في كل القضايا.القضية الثانية: أننا نستطيع أن نتأكد تماماً كيف ينظر هؤلاء
اليهود وأهل الكتاب بالفعل إلى أنبيائهم, وإذا كان هذا الكلام عن أعظم الأنبياء فماذا سيكون الحديث فيما بعد؟! إذا كانت عبادة الأصنام أو إقرارها؛ بل صناعة الأصنام نفسها! إذا كان ذلك يفعله الأنبياء فماذا يمكن أن يفعل فيما بعد؟! ولماذا ينكرون على من حرف من
اليهود فيما بعد في تاريخهم الطويل؟! فهناك إذاً قضايا لا بد أن تستوقفنا ونحن نتعرض لمثل هذا, وهي قضايا كثيرة نأتي إن شاء الله فيما بعد على بعضها. لنذكر فقط هنا بأن القضية عندما تأتي مسألة الأنبياء أو ما أشبههم وهي تأتي عن
اليهود أنفسهم، فانظر ماذا يقول المسلمون؟هناك جانب آخر أعظم من هذه، وهو إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عندهم هو الذي قال القرآن أو كتبه أو أملاه ووضعه -وحاشاه من ذلك صلوات الله وسلامه عليه- فأي عدو يريد أن يعادي
اليهود -عدو من أعداء
اليهود- فيجد في كتبهم ما يحط من قدرهم وما يحط من قدر أنبيائهم وإلى آخره, فلماذا يكلف نفسه وهم يعادونه ويؤذونه؟ لماذا يكلف نفسه أن يرفع درجتهم؟! وأن يأتي بغير ما في كتبهم, وأن يمجد من هم يحقرونه! يعني: قدواتهم ونماذجهم المفضلة لديهم لماذا هو يرفعها ويقدرها إلا أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى، وما عنده علم -اللهم صل وسلم عليه- أبداً, ولا كان يتلو من قبله من كتاب, ولا كان يخطه بيمينه, ولم يطلع على ما يبرئ أولئك الأقوام، هذه النسخ القديمة من العهد القديم وغيره هي التي كانت موجودة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم في التاريخ القديم، ومن أين له أن هذا لم يكن كذلك؟ قصة تأتي في القرآن عجيبة جداً, من أعظم وأروع القصص القرآنية التي تأخذ بمجامع الألباب والعقول في مضامينها وفي أسلوبها.. وتأتي في
التوراة بهذه الشكل! فإذا كان هذا الذي يعاديه
اليهود ويؤذونه وحاولوا قتله يأتي بمثل هذه المعاني العظيمة عن أنبيائهم، إذاً هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه وهذه الأمة التي من بعده ليست شعوبية ولا عنصرية, ولا تنظر من زاوية سامية ولا سامية، وإنما تنظر إلى الحق من حيث هو حق, ومن حيث هو وحي من عند الله تبارك وتعالى.