المادة    
الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى سائر أنبيائه المختارين المصطفين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام! لا زال الحديث عن تاريخ النبوة, لا عن تاريخ الأنبياء -كما أشرنا من قبل- فالغرض هو النبوة, ومكانة النبوة، وبعد ذلك بإذن الله تبارك وتعالى نعود إلى الوراء, ونستعرض ما وقع من أحداث لبعض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم, ونذكر شيئاً من سيرهم.
وإنما الغرض الآن هو بيان مقام ودرجة النبوة في الفكر الكتابي, أو في العقائد الكتابية المحرفة، وقد تقدم -في اللقاء الماضي- ما يتعلق بنوح ولوط عليهما السلام, وأشرنا إلى ما فيهما من محاولة واضحة وإفك وافتراء؛ ترمي هذه المحاولة إلى تحقير وتدنيس وتنجيس الشعوب المعادية لبني إسرائيل في ذلك الوقت, بمعنى: أن المحرفين الكهنة الذين حرفوا كتاب الله تبارك وتعالى حرفوه بناء على نزعة عنصرية شعوبية؛ لكن العجب -وهذا ما نراه الآن في هذه الحلقة- أننا عندما ننتقل إلى التاريخ الإسرائيلي نفسه -إلى موسى وهارون عليهما السلام ومن بعدهم- نجد أن النزعة لا تزال موجودة, والهدف لا يزال موجوداً؛ لكن لا بشكل يستهدف الشعوب الأخرى؛ ولكن بشكل شيطاني يستهدف تحقير أو تنقيص درجة هؤلاء الأنبياء؛ باعتبار أنهم كهنة أو شبه كهنة لغرض شيطاني آخر؛ وهو الهبوط إلى مستوى النفوس الشهوانية المادية المنحطة, التي لا ترتقي أبداً إلى درجة الأنبياء.
ومن هنا يكون التاريخ المتعلق بأنبياء بني إسرائيل هو حقيقة حطاً وتهويناً من شأنهم وقدرهم في معظم الكتاب؛ فتصبح كل الأخطاء التي يرتكبها الكهنة أو الأحبار أو المشعوذون, وكل النوازع البشرية الشريرة أو الخبيثة من تعظيم الدنيا أو حبها أو كراهية الخلق أو العداوة للبشر أو ما أشبه ذلك؛ كلها يريدونها أن تستند إلى تاريخ الأنبياء نفسه؛ فليس هناك من شيء مقدس.
الكلام الذي نقوله الآن ليس افتراضاً, طبعاً قضية نظرة الكتبة أو الأحبار الذين كتبوا العهد القديم أو التوراة وما بعده، وعقيدتهم ونفسيتهم وما أشبه ذلك؛ خضعت لدراسات طويلة جداً من علماء النفس, ومن علماء الاجتماع من القديم والحديث، حتى أن فرويد صاحب مدرسة التحليل النفسي المشهور, ولا زال الآن نعوم تشومسكي وغيره من اليهود هم بأنفسهم يحارون أو يحاولون أن يفسروا هذا المنحى النفسي الذي وجد في تلك النفسية اليهودية .
بمعنى آخر: القضية ليست سامية ولا سامية, نحن في منهجنا الإسلامي نرفض الشعوبية والعنصرية والقومية بأي شكل وتحت أي اسم، ولكن القضية أن هناك من لم يؤمن حقيقة بالأنبياء الذين أرسلهم الله تبارك وتعالى إلى بني إسرائيل, وإنما تزندق؛ ولذلك نجد الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه وغيره يقولون: هذا من وضع زنادقة أهل الكتاب؛ تزندقوا أو نافقوا فأدخلوا في الكتب ما ليس منها, مع احتفاظنا الدائم -وأذكر الإخوة دائماً بهذا- بأن عقيدتنا وإيماننا بأنه (( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ))[الأعراف:159], وأن الجيل المؤمن استمر, وأنهم في كل مرة يبعث إليهم نبي يجدد لهم الإيمان؛ فهناك منهم المؤمنون ومنهم الفاسقون، وكما ذكر الله سبحانه وتعالى عن كل الأمم, وحتى في هذه الأمة الإسلامية هناك من هو على الجادة المستقيمة وهناك من هو منحرف.