المادة    
هنا أيضاً نأتي على منهج آخر أو اتجاه آخر في البحث العلمي، فيما يتعلق بالنبوة والأنبياء وتاريخهم, وما يتصل بذلك -مع أننا قد أوضحنا أن كل بحث في الفرق أو في الأديان؛ فهو تاريخي بشكل ما- أقول: هناك أيضاً من أخطأ في هذه المسألة ولكن من نوع آخر. ‏
  1. استهداف بني إسرائيل بالعداوة حتى الأنبياء منهم

    الخطأ الذي يقع فيه هؤلاء, أو النوع الذي نقصده هو: أن كثيراً من الكتاب والباحثين القوميين العرب تأثروا بالصراع اليهودي العربي في الأحقاب الأخيرة وفي العقود الأخيرة؛ فأخذوا يكتبون في هذه القضايا عن أنبياء بني إسرائيل, وعن تاريخ بني إسرائيل وكأنهم أمة عدو لا بد أن تتحين الفرصة لكي تبطل كل أعمالها؛ لكي تبين خطأها في كل مسألة, لكي تبين أنها أمة معتدية, وأنها أمة وحشية, وأنها أمة همجية؛ فأثر هذا بشكل آخر حتى وجدنا انحرافات خطيرة خارجة عن منهج القرآن والسنة في التعامل مع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سيما أنبياء بني إسرائيل؛ مثل: موسى وسليمان وداود ومن بعدهم، فضلاً عن جزء مهم من تاريخ بني إسرائيل الذي جاء في القرآن الكريم, والذي نحن نؤمن به ونعتقده؛ لأن بني إسرائيل المؤمنين هم جزء من أمة الإسلام العظيمة التي تمتد من آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ من الأمة المسلمة الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام ما داموا متبعين لأي نبي من الأنبياء من غير أي تفريق، ولا تفرق أمة الإسلام في القديم والحديث بين أي نبي من الأنبياء.
    فالأمة الإسلامية أو أمة الإسلام -قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم- المسلمون الحنفاء أتباع أي نبي من الأنبياء؛ كانوا يؤمنون بالأنبياء الذين سبقوا, ويؤمنون بالأنبياء الذين سيأتون، وبعد محمد صلى الله عليه وسلم حيث ختمت النبوة، فالأمة الإسلامية بمعناها الأخير والخاص المعروف الآن في العالم: تؤمن بكل أنبياء الله تعالى ولا تفرق بين أحد منهم.
    الفكر القومي العربي نحى منحاً آخر؛ وهو استهداف بني إسرائيل بالعداوة, حتى أنبياءهم, حتى التوراة ! فنجد كلاماً خطيراً جداً، نجد هناك توجه إلى القول بأن كل ما جاء في سفر التكوين عن الخلق والخليقة منقول من أساطير أقدم, نجد من يقول: إن شريعة موسى عليه السلام منقولة عن شريعة حمورابي ، ثم يقول: إن حمورابي عربي باعتبار أن السامية أكذوبة وتلفيق، فردوا هم على أكذوبة أو تلفيقات الباحثين المستشرقين اليهود عن السامية بأن جعلوا العربية؛ لكن جعلوا العربية مقدسة وجعلوا اليهودية مدنسة! وليس هذا بصحيح..
    نعم هناك تاريخ للعرب ما قبل إسماعيل عليه السلام؛ وهم العرب القديمة, وليست سامية، ونحن نقول: إنهم عرب قدماء -وهذا سنوضحه إن شاء الله وقد أشرنا إليه فيما مضى- لكن ذلك لا يعني أنهم على الحق؛ بل هناك منهم المشرك ومنهم المؤمن ومنهم البر ومنهم الفاجر، ومنهم الطواغيت الكبار كما منهم الأنبياء العظام؛ لكن القوميين العرب جعلوا هذا مقابل هذا، فإما أن يُرجعوا كل فضيلة في التوراة أو في الوحي الذي أوحاه الله لبني إسرائيل إلى أصل عربي بأي شكل من الأشكال ولو بالتلفيق أو بالمجازفة، وإما أن يقولوا: لا. إن هذه كلها أباطيل وأساطير ترجع إلى أساطير سومر والفراعنة وغيرهم، كما يتحدثون إذا تحدثوا عن التوحيد وأنه مأخوذ عن أخناتون .
    حتى الأستاذ عباس محمود العقاد مع تعمقه في هذا، في كتابه: إبراهيم أبو الأنبياء قبل أن تتضح الفكرة القومية بأبعادها التي حدثت فيما بعد أيام الناصرية؛ لكنه مع ذلك كان يجعل الأمرين؛ الإسرائيلية من ناحية، والعربية من ناحية، ويثبت أو يكاد يؤمن بنظرية تطور الدين, ويقارن بين أخناتون وبين عقيدة التوحيد.
    هذه مع الأسف أيضاً إحدى الانحرافات المنهجية التي وقع فيها المفكرون القوميون العرب وأشباههم، حتى أنك تجد الذم والعيب والنقص لديهم لا يسلم منه الأنبياء!
    فيفرحون بأي نقيصة يجدونها منسوبة إلى داود عليه السلام مقابل أن الفلسطينيين -كما يزعمون- أو العرب الأصليين أو الذين يسمونهم فلسطينيين, فهم عندما أصبحت القضية عنصرية عرقية يقولون: حرب داود عليه السلام مع جالوت وما حدث كما قصها الله تعالى في القرآن، تأخذ منحى آخر وكأنها شكل متقدم للصراع العربي الصهيوني المعاصر؛ فكل فضيلة تسلب من هذا الجانب وتعطى للفلسطينيين لـ جالوت ولجيشه، وتؤخذ قضية طالوت وداود كما وقع في التوراة المحرفة وأشد من ذلك أيضاً.
    ونحن إن شاء الله سوف نبين ما وقع في التوراة من تدنيس لمقام النبوة والأنبياء خطأ، إن شاء الله في الحلقة القادمة أو التي بعدها حسب الإمكانية، عندما نبين أن النظرة الكتابية نحن لا نقرها؛ لكن نحن هنا نشير إلى الخطأ الذي قد يحسب على أنه إسلامي! أو يُظن أنه إسلامي!
    والحقيقة أن هؤلاء الكتّاب وإن كانوا مسلمين إلا أنهم وقعوا في أخطاء كبيرة جداً في هذه المسألة الخطيرة والمهمة؛ لأنهم عاملوها أو نظروا إليها بالنظرة القومية العنصرية، وأسقطوا قضايا حديثة على قضايا قديمة والأمر مختلف تماماً، وهو واضح جداً بالنسبة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وفي كتب العقيدة وكتب التفسير المسألة هذه لا تحتاج إلى لبس, ولا تحتاج إلى أن تدافع عن أي شيء؛ لأنه عربي أو تثبت عروبته, وإن كان غير ذلك, ولا أن تثبت أن أي أمر آخر أنه باطل وأنه خطأ أو أنه تدنيس أو أنه رجس لمجرد أنه ينتمي إلى الأمة الإسرائيلية, ليس ذلك ولا ذاك.
  2. انحراف القوميين مع وضوح المنهج القرآني

    المنهج القرآني في هذا واضح جداً منذ أن بين الله تبارك وتعالى ذلك منذ الهجرة عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وحدث الاحتكاك المباشر بنيه وبين اليهود في المدينة، فتأتي السور القرآنية ومنها سورة البقرة وآل عمران وغيرها؛ لتبين حقائق عظيمة وجلية، لا ينبغي لأي كاتب مسلم وعربي أن يتغافل عنها؛ بل اللوم على العرب أكثر؛ لأن القرآن بين أيديهم ويقرءونه!
    نجد حقائق واضحة, كل الأنبياء هم على الإسلام, وكلهم دعوا إلى الإسلام والإيمان بالله تبارك وتعالى، ولا سيما موضع الخلاف وهو من إبراهيم عليه السلام فصاعداً.
    إبراهيم عليه السلام (( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[البقرة:131], هذه حقيقة مقررة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم, وبينها في الآية مائة وواحد وثلاثين من سورة البقرة، ثم يقول: (( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:132], وقبلها يقول: (( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ))[البقرة:128], يعني: دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة.
    وهناك يأتي السياق القرآني، فبعد أن يؤكد حقيقة أن يعقوب مسلم -لأن الإشكال حدث في ذرية يعقوب عليه السلام والقول بأنهم كانوا يهوداً أو نصارى - (( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:133], هذه عقيدة جلية.
    ثم يبين بعد ذلك السياق القرآني الكريم أن اليهود و النصارى (( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))[البقرة:135]؛ فيؤكد (( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[البقرة:135], (ملة إبراهيم حنيفاً) هي التي يقول الله فيها: (( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123], يعني: النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ما هو إلا متبع, وفي الآية الأخرى: (( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ))[الحج:78].
    بين تبارك وتعالى أن أبانا إبراهيم هو أب لنا في مسألة الدين ومسألة الاعتقاد -لا أبوة النسب- أبوة عظيمة، أبوة روحانية جليلة؛ فنحن جميعاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن نسمى ويمكن أن يقال: إننا على ملة إبراهيم ولا حرج، ويمكن أن يقال: إننا حنفاء ولا حرج، ومسلمون بهذا المفهوم أيضاً كل ذلك أشبه بالمترادفات اللغوية؛ ولذلك نحن نجد تفاسير السلف لهذه الآية أو لمفهوم كلمة (الحنيفية).
    التفسير والتاريخ الذي حدث بعد ذلك يؤكد هذه المعاني.
    أما تفسير الحنيفية فقد فسرها مجاهد و الربيع بن أنس كما نقل ابن كثير رحمه الله بأن (حنيفاً) أي: متبعاً. قال أبو قلابة : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
    كان هذا المفهوم الراقي العظيم، الإيمان بالرسل جميعاً من أولهم إلى آخرهم!
    ثم يأتي أيضاً قتادة فيقول: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله, ويدخل فيها -هذه نقطة مهمة ونحن هنا نذكرها لأهميتها- تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات -يعني: خروجاً عن الشرائع المحرفة في هذا الشأن- وما حرم الله تبارك وتعالى -دخول تحريم الخمر والخنزير وعبادة الأصنام داخلة في الحنيفية- ثم يقول: والختان! الشعائر التي هي من سنن الفطرة!
    ملة إبراهيم عليه السلام هي عقيدة هذه الأمة، عقيدة في الله تبارك وتعالى, وفي الأحكام جملة وهي تحريم الخبائث وإحلال الطيبات، وفي الشعائر التي هي من سنن الفطرة، ومن أعظم وأهم ذلك الختان! ذلك الذي كان معروفاً متداولاً بين العرب، وظل عليه بنو إسرائيل حتى نسخه بولس بدعواه وزعمه الكاذب.
    فسنن الفطرة وخلال الفطرة -فضلاً عن العقائد التي أكبر من ذلك- تنسب إلى إبراهيم عليه السلام, ونحن من أتباع ملة إبراهيم عليه السلام؛ ولذلك أمرنا الله تبارك تعالى بعد هذه الآية مباشرة بأمر نحن نتعبد به ونقرؤه في صلاتنا تذكيراً به يومياً وشبه يومي: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:136], ونبطل بطلاناً شديداً كل من يدعي أن نبياً من الأنبياء كان على غير الإسلام, وأنه كان يهودياً أو نصرانياً.
    اليهودية و النصرانية هي انحراف وقع في أتباع الأنبياء؛ ولذلك عندما يأتي الكلام عن العدل والتفريق بين المخطئ والمذنب منهم لا يأتي الكلام بصفة اليهود أو النصارى في القرآن، اليهود أو النصارى وصف في الأصل للذم للأمة المنحرفة، أما الأصل فهم يسمون أهل الكتاب كما في قوله تعالى: (( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ ))[آل عمران:113], يعني: أهل الكتاب ليسوا سواء منهم ومنهم، أو قوله تبارك وتعالى: (( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ))[الأعراف:159]؛ فليسوا سواء؛ لذلك قال: (من قوم موسى) يشمل الذين اتبعوه بحق والذين يدّعون غير ذلك، وكذلك عيسى عليه السلام.
    فأفضل الخلق عندنا نحن المسلمين في عقيدتنا الإيمانية الواضحة الجلية هم الأنبياء، وأفضلهم أولو العزم من الرسل، وأفضل من بعدهم هم أتباع الأنبياء.
    فأفضل الناس هم من صحب موسى عليه السلام مؤمناً به، ثم صحب عيسى عليه السلام مؤمناً به وبموسى، ثم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهم كانوا طبعاً مؤمنين بموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكل أنبياء الله (( لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ))[البقرة:285], ثم التابعون من هؤلاء وهؤلاء.
    أما من انحرف ومن ضل ومن ابتدع؛ فنحن نبرأ إلى الله تبارك وتعالى من انحرافه وضلاله وشركه وبدعته، سواء كان من قوم موسى أو من قوم عيسى أو ممن يدعي أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالمسألة عندنا لا عنصرية فيها, ولا قومية فيها بأي شكل من الأشكال، وإنما هو دين جلي واضح مثل الشمس، جعله الله تبارك وتعالى دين الأنبياء جميعاً وقال: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19], وقال: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[آل عمران:85], نؤمن بهم جميعاً ومن انحرف من هؤلاء الأقوام جميعاً فحسابه على الله, وبحسب انحرافه يُعامل، وفي ذلك إيضاح وتجلية لكثير من القضايا التي وقع فيها من أخطأ وضل.